(شنطة) مبتعث!
الشنطة أو إذا أردنا أن نفصحنها أكثر الحقيبة، هي رفيقة المسافر ومستودع أسراره واحتياجاته، ولو تحوّلت الحقيبة إلى كائن بشري لأصبحت (قيرل فرند) العازب وزوجة المتزوج. فلا يمكن لحاملها إلا أن يحبها وهو الذي اختارها بعناية من بين كل الحقائب، وحرص على حشوها بما يرغبه ويحتاجه، فكل ما في داخلها يوافق ذائقة صاحبها. الحقائب أصبحت جزءا لا يتجزأ من الأسرة، فترى الأطفال يتقافزون بفرح وكأنهم يستقبلون فردا من أفراد عائلتهم عند رؤيتهم في المطار لحقيبتهم قادمة على سير الحقائب المتحرك. وتكريما للحقيبة التي تصاحبت وإياها زمنا طويلا تغزلت فيها قائلا:
حقيبتي أصبحت منّي ومن بدني..وليس لي غير كل الأرض عنوان
بعد عدة تجارب ومصائب أقول للمبتعث أحسن اختيار حقيبتك، واجعلها وما فيها ممّا خف حمله وكثرت فائدته، فأولى مصائب ابتعاثي كانت في حقيبتي، ومسمى حقيبة تهوين من شأنها، فهي كانت أقرب لجنس السيارات منها إلى جنس الحقائب، ولو رُكّب لها مقودٌ وزوّدت بمحرك، لكانت ملائمة للسير في الشوارع. كان حجمها يسمح لشخصين بالنوم فيها مع قليل من التثني، وغالب ما احتوته بالإضافة إلى الكتب أشكالا مختلفة وتصاميم متنوعة من الملابس وكأني سأستقر في بلد عراة.
ابتليت بهذه الصاحبة ضخمة الجثة في السفر، وكنت لا أقودها إلا سحبا من الأمام أو دفعا من الخلف، وعندما أقمت في نزل صغير كان الدرج لا يتسع لكلينا فاضطررت لتقديمها عملا بمبدأ النساء أولا، مع إمساكي بقوة برسنها وهي تهبط مسرعة حتى لا يفزع صوت ارتطامها بعد استقرارها على الأرض ساكني النزل. الطريف أن نصف الملابس التي أحضرتها لم ألبسها واضطررت لشراء غيرها فلم تنجح متابعة الأفلام الأمريكية في إعطائي صورة صادقة عن الموضة في ذلك الوقت.
أول حقيبة ظهر اقتنيتها كانت في اليوم الثاني من وصولي إلى بوسطن، بعد أن تزاملت مع سائح أوروبي، سألته عن مكان وتصادف أنه ذاهب إليه، فسرنا سويا نجرب لغتنا الإنجليزية المكسرة مع بعضنا، ولفت نظري أنه يحمل كل شيء في حقيبته فهي باختصار كل حياته، وكلما احتاج شيئا وضع حقيبته على الأرض والتقط منها ما يريد، وبعد أن افترقنا عزمت على أن أسارع في شراء حقيبة مثلها، ولـ (حسن) سوء الحظ رأيت حقيبة من وراء زجاج محل، وابتعتها دون تركيز أو فحص، وبعد أن عدت إلى الفندق وجدت مكتوبا عليها (كلية بيركلي للموسيقى)، رأيت المحل بعد فترة فاكتشفت أنه تابع للكلية ويبيع تذكاراتها. هذه الحقيبة الظهرية سببت لي حرجا دائما في فترة اللغة، فكل من رآها ظنني موسيقارا، ونظر إليّ باحترام نظرته لبيتهوفن وموزارت وبليغ حمدي، وهو لا يعلم أن حاملها مكره لا بطل، كنت دائما أضطر لسرد القصة السابقة كلما تحمّس أحد وجاءني من بعيد ليستفيد من خبرتي الموسيقية.