Wednesday, November 5, 2014

بائعة الكتب

بائعة الكتب



لفت انتباهي وأنا أتنقل بين رفوف الكتب في مكتبة "ووترستون" وريقات صغيرة وضعت على الرفوف تحت بعض الكتب، اقتربت من إحداها، قرأتها فوجدت فيها عرضاً ملخصا وتقييماً -مكتوباً بخط اليد- للكتاب الذي فوقها، تعوّدت على التقييم في موقع "قودريدز" لكن لأول مرة أجده مكتوباً في مكتبة تجارية. استغليت فرصة قلة الزبائن لأسأل البائعة خلف "الكاونتر" عن سر هذه الملخصات، أجابت بأن موظفات المكتبة وموظفيها يقومون أحيانا بعد قراءة كتاب بكتابة انطباعاتهم حوله. سألتها إن كان هذا مفروضا عليهم من إدارة المكتبة، فنفت قائلة إنها لم تشاهد خطابا يجبرهم على ما فعلوه، بل هو تقليد وجدته منذ التحقت بالمكتبة قبل خمسة عشر عاما، وما زالت تمارسه منذ ذلك الحين. وذكرت أنهم لا يمانعون من تعليق ملاحظات الزبون لو أتى بها، قلت لها إن التعليقات حول الكتب كلها إيجابية، فماذا لو وجدت كتابا سيئا، أيسمح لها بتعليق ملاحظات سلبية عنه؟ فأجابت: ليس هناك كتاب سيء، ما أجده سيئا قد يعتبره غيري جيدا. 





إذا أردت من أحد أن يتحدث بحماس وفرح فأسأله عن هوايته، هذا ما بدا لي وأنا أستمع للبائعة بعد أن استطردَت في الحديث عن الكتب، كانت عاشقة للقراءة محبة للكتب قبل أن تكون بائعة يقتلها روتين العمل. كانت فخورة بعملها لأنه يتيح لها قراءة الكتب حتى قبل الإعلان عن صدورها في الأسواق، ويتركها بين الكتب فلا تشعر بالملل لو للحظات وهي تتصفح هذا الكتاب وتقرأ ذاك دون أن تدفع بنساً واحداً، وتحرص على أن تكون هداياها لأصدقائها وأسرتها في أعياد ميلادهم وأعياد "الكريسماس" كتبا تناسب هواياتهم وأعمارهم. 


تحدّثَتْ عن الفارق الكبير بين إبداع الروايات وتواضع الأفلام المأخوذة عنها، وكرهها لمشاهدة الأفلام بعد قراءة رواياتها الأصلية. استشهدت على ذلك برواية "الرحلة الطويلة" للبولندي سلومير راويز الذي ادعى فيها هروبه عام ١٩٤١ من معسكر اعتقال روسي في سيبيريا مع ستة معتقلين، وروى فيها المصاعب التي واجهتهم، وتعرّض بعضهم للوفاة حتى وصولهم أخيرا إلى الهند. اشتهرت هذه الرواية في بريطانيا، وادّعى بعض المعتقلين السابقين أنهم أبطال القصة الحقيقيون، فيما كشف تحقيق للبي بي سي أجري عام ٢٠٠٦ واعتمد على كشوفات المعتقلات الروسية أن سلومير راويز أُطلِق سراحه ورحّل إلى مخيمات لاجئين في إيران، وأن قصة هروبه مختلقة. هذه الرواية تحولت عام ٢٠١٠ إلى فيلم لكن بعنوان آخر "رحلة العودة" قالت عنه البائعة أنه شوّه جمال العمل الروائي في الكتاب الأصلي. 

نفس الشيء توقعَته لفيلم "فتاة راحلة" المعروض حاليا في دور السينما والذي يقوم ببطولته بن أفليك، الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم لجيليان فلين، نشرت عام ٢٠١٢ ولاقت نجاحاً كبيرا جعلها من أكثر الكتب مبيعا حسب قائمة نيويورك تايمز. 



أشاركُ البائعة نفس الشعور تجاه الأفلام المأخوذة عن الروايات، أتذكّر نقاشاً دار بيني وبين معلمي البريطاني - أيام ابتعاثي في أمريكا-  عن أفضلية الفيلم أو الرواية، بعد أن كتبتُ مقالا كأحد واجبات تعلم اللغة، ذكرت فيه البون الشاسع بين إحساسي برواية "العجوز والبحر" لهيمنجواي، وبين تضاؤل هذا الإحساس أثناء مشاهدتي لفيلم مأخوذ عنها، أتذكر أني قرأت الرواية لأول مرة وحيداً في غرفتي، كان هيمنجواي بارعاً لدرجة تجعل القارئ يكاد يشعر بالبلل من الأمواج التي تجعل المركب يترنح كسكّير جريح. ويتخيّل الموج وكأنه جبلٌ لا قمة له يهجم على العجوز البائس الذي يأبى أن يودّع قوته وأمجاد شبابه. أفضل مخرجٍ يعجز عن مجاراة خيال القارئ في تصوير الحدث، وإلباس شخوص الرواية وأماكنها لباس الواقع. في "شفرة دافنشي" لدان براون حدث العكس، شاهدتُ الفيلم الذي بطله توم هانكس قبل قراءة الرواية، ولمّا قرأت الرواية كنت كمن لم يشاهد فيلما عنها قطّ من شدة اختلاف التفاعل معهما. 



ودّعت البائعة بعد هذا الحوار الممتع معها، وسألت نفسي وأنا أخرج من المحل، هل يوجد في بلداننا العربية بائع للكتب يعشق مهنته؟ كهذه التي قضت خمس عشرة سنة من حياتها مستمتعة بعملها قانعة به محافظة عليه؟.

ربما على المكتبات عامها وخاصها أن تطوّر ثقافة العمل لديها، لتجعل من موظفيها عشاقا لما يبيعون وما يتعاملون معه، وتمنحهم التقدير والرضا الوظيفي والتحفيز الذي يجعلهم يفنون أعمارهم لخدمة الكتاب وقرائه.