أميرا الأدب
من حسنات جامعة الملك سعود أيام دراستي فيها، أن وفرت لطلابها دورات تدريبية وثقافية متنوعة الأغراض، ورسوم الاشتراك فيها رمزية لا ترهق ميزانية الطالب، التحقت بإحداها، وكانت تقام مساءً بمعدل محاضرة واحدة في الأسبوع، جذبني عنوان الدورة، وهو فن الخطابة، أحسست أنه سيساعدني على تحسين الإلقاء وتنظيم الأفكار.
دلفت إلى القاعة في أول محاضرة، فوجدت أمامي كهلا وقورا سبقنا نحن الطلاب إلى القاعة، كان جالسا خلف طاولة مستطيلة مواجهة لطاولات الطلاب، يقرأ كتابا يقتل به لحظات الانتظار ريثما يبدأ وقت المحاضرة ويكتمل المسجلون فيها. لا يقطع عليه استغراقه في القراءة إلا الرد على سلام كل طالب يدخل القاعة. ابتدأت المحاضرة وانطلق صوت المحاضر هادئاً حتى لا يكاد يسمع، وفصيحاً حتى لا يكاد يلحن، كأن كلماته قبل مغادرة فمه تمر على مدقق نحوي يضبط حركاتها وحروفها. اختار لنا كتاب ديل كارنيجي “فن الخطابة والإلقاء” مرجعا دراسيا، وبقينا أسابيع نتداول فصوله، ونلقي على مسامع الأستاذ خطبنا المجلجلة، وبعد كل خطبة عصماء يدور النقاش حولها، نستدرك على صاحبها أخطاءه ونقاط ضعفه، ليتخلص منها في الأسابيع القادمة.
![]() |
عمر بهاء الدين الأميري |
كان من الممكن أن يزورني الملل كعادته مع الروتين والانضباط، ويزين لي حجج الانقطاع عن الدورة رفقا بي من المشاوير التي أقطعها ما بين حيي الجامعة والروضة، وضغط الدراسة التي تتنافس فيها الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من الصداعيات على اقتسام ما تبقى من خلايا الدماغ. لكن المتعة التي وجدتها في هذه الدورة كانت لا تقاوم، انتهت محاضراتها ووددت أن لم تنته، وجرفتني الحياة والدراسة فنسيت معها الدورة وذكرياتها إلى أن قابلت ربما بعد عقد من السنين د. وليد قصاب، الناقد والأديب، فتذاكرنا الشعر والشعراء، وأبدى إعجابه بقصيدة محكمة السبك والتصوير، عن أبٍ صوّر افتقاده لأطفاله بعد خلو البيت منهم، وأبدع في نقل حنينه لشغبهم ودلعهم وبراءتهم، كان هذا الأب الشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري وقصيدته "أب" كتبها بعد أن سافرت عائلته وأولاده الثمانية إلى "حلب" تاركينه للخلوة والوحدة في مصيف "قرنايل" عام ١٣٧٧هـ، ما إن ذكر الاسم حتى نشط الجزء الخاص بحفظ الأسماء في ذاكرتي، وهذا الجزء بالذات أشعر أنه معطوب منذ الطفولة، فهو يفقد من الأسماء أكثر مما يحفظ، ويوقعني في ورطة مع أصدقاء وأحباب تتبخر أسماءهم رغم معرفتي الوطيدة بهم، فأضطر لمصارحتهم بتاريخي المحبط مع حفظ الأسماء، استرجع هذا الجزء المعطوب اسم الدكتور الذي درسني “الخطابة” في مساءات جامعية، فقد كان اسمه أحمد البراء الأميري، وعندما بحثت وسألت عنه وجدت أن أستاذي هو ابن لعمر الأميري، فخجلت من قلة علمي بالعلمين الأب والإبن.
مرّت سنوات بعد هذا الاكتشاف، انغمست فيها في العمل صباحا ومساء فلم أجد وقتا لبدء رحلة البحث عن الأستاذ من جديد، وأنستني مشاغل الحياة هذه الأمنية، حتى كانت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي جمعت العالم في قاعدة بيانات واحدة، فالتقى الغريب بأهله، وصافح رفاق العمر بعضهم من أماكنهم المتنائية المترامية في قارات الأرض. وفي غمرة هذه الثورة صحوت يوماً على رسالة من أستاذي الغائب الحاضر، جاء فيها:
لم ألم نفسي على خطئها الإملائي النحوي في نسيان الألف في كلمة “أخرويا” فلا تلام لو أخطأت رهبة من أحد أساتذتها. ولم أعرف كيف أعبر عن مفاجأتي بهذا الحدث السعيد، ونسيت أن أسأله حتى هذا اليوم إن كانت ذاكرته قوية بحيث تعرفت على أحد طلابه العابرين، أم أن تعقيبه كان على مغرد لا يعرفه من قبل.
انتهزت إجازة سانحة في الرياض لأطلب لقاءه، وبعد الاتفاق تعذر اللقاء، فمرت سنة أخرى، إلى أن تدخل عنصر المفاجأة مرة أخرى، وكأن ما يحدث رواية خيالية يفرط كاتبها في استخدام عنصر المفاجأة ليملأ الصفحات بالتشويق. كنت في مطار جدة استعدادا للإقلاع إلى الرياض، وكالعادة حضرت مبكرا لأتلذذ بطقوس القراءة مع كوب من القهوة على منظر من الطائرات المستعدة للإقلاع، مع أن هذه العادة الجيدة قد تتغلب عليها أحيانا عادة سيئة في الانشغال بوسائل التواصل متابعة وكتابة. ذهبت إلى مقهى المطار، وأثناء طلب القهوة لفت نظري رجل تقدّم به العمر، منحنٍ على جهازه اللوحي، تفرّست في ملامحه، ووجدتها مطابقة لأستاذي الذي لم تتح لي الظروف مقابلته. وما إن استلمت كوب القهوة من البائع، حتى قررت التوجه له، قطعت عليه صمته، قائلاً: عفوا، هل أنت د. أحمد البراء الأميري؟، فلما أجاب بالإيجاب، ضحكنا من الحظ الذي منعنا من اللقاء بالرياض ليجمعنا في مطار جدة، لنعود منها إلى الرياض في طائرة واحدة، وجدت أن نفسه الشابة لم تمسها عواصف العمر، فابتسامته الطازجة كما هي، ودعاباته وسرعة بديهته متقدة، لكن جسده لم يستطع مقاومة ناموس الحياة، فارتعشت يداه وانحنى ظهره، ولم يعد يستطيع سوى حمل حقيبة يد صغيرة خفيفة كي لا يؤثر وزنها على ظهره، رغم التفاؤل الذي تحمله كتاباته دائما في “تويتر”؛ إلا إنها تخرج كاللحن الأخّاذ من أصابع تصافح بارتعاش أصابع البيانو.
ولما دعانا المذيع الداخلي إلى التوجه إلى بوابة السفر، لم أستطع احتمال رؤيته واقفا بعد كل هذا العطاء وراء طابور طويل من الأصحاء، فاتجهت إلى موظف شركة الخطوط مصحوبا بنظرات الواقفين الغاضبة، لأنبه الموظف باستثناء الحالات الإنسانية ومنها المسنين، وتقديمهم على غيرهم، اقتنع مشكورا بعد مفاوضة قصيرة، وكتبت ذات يوم مقال من وحي هذه الحادثة:

ثم ذهب بنا الحديث إلى علاقات الدكتور أحمد البراء الأميري بالمناشط الثقافية والمثقفين، وإلى رسالته إلى نزار قباني، الذي كان يرى فيه شاعر مبدعا، يسوءه منه فقط مساسه بالدين والقيم في بعض شعره، فأرسل إليه مهنئا بسلامته وناصحا بإشفاق له.وجدت هذه الرسالة منشورة في موقع الألوكة، وأوردها هنا:
![]() |
رسالته إلى نزار قباني بتاريخ ١٤١٨هـ |
كما وجدت له نماذج وصورا من مشاركاته الثقافية في مجتمع الرياض الأدبي، منها مشاركاته في الصالون الأدبي الشهير “خميسية عبدالعزيز الرفاعي” رحمه الله:
![]() |
مشاركته في خميسية الرفاعي بتاريخ ١٤١٢هـ |
ومشاركته في أحدية الدكتور راشد المبارك رحمه الله عام ١٤٠٩ في أمسية بعنوان "في حضرة البحتري":
ولأن من كرم ضيافة الأديب إهداؤه كتبا للضيف، فقد تشرفت بثلاث هدايا، وهي مختارات من شعر عمر بهاء الدين الأميري بعنوان “الأميريات”، وكتاب فن التفوق والنجاح، وكتاب اللياقات الست:منهاج حياة، وهذا الكتاب الأخير -كما ذكر قريبٌ من قلبه، لأنه يرى فيه خلاصة تجربته في الحياة، وعونا لكل شاب يرغب تنظيم حياته وتحقيق أهدافه، وكان هناك مشروع -لا أدري إن تمّ أم لا- لتحويل هذا الكتاب ونصائحه إلى مقاطع على اليوتيوب.
دعواتي لأستاذي في هذا الشهر الكريم أن يديم الله عليه الصحة والعافية، ويبارك في عمره وعلمه وعمله.