جلسة مع مفكر النقاد د. عبدالله الغذامي
كلما زادت محبة إنسان أو تقديره صعبت الكتابة عنه، ربما هذا ما أخرني في تدوين أول لقاء مع الدكتور عبدالله الغذامي في مدينة الرياض. التقيته بعدها بأسابيع في لندن، كان اللقاء الثاني مشوبا بالقلق على صحته، تفاجأت كغيري بخبر إصابته بالسرطان، لم أجد ما يشفي غليل الاطمئنان عليه سوى تغريدة كتبتها ابنته، حتى عثرت على خبر في صحيفة "عكاظ" أنه يتعالج في لندن من هذا المرض الخبيث الذي يتخيّر خيار الخلق ليرميهم بسهم ابتلائه، وللتذكير فهو نفس المرض الذي أصاب أحمد مطر شفاه الله وكتبت عنه في مدونة سابقة بعنوان "لقاء مع المطر"، ولكنه كان أخف وطأ مع الغذامي ولله الحمد، فاكتشافه المبكر جعل علاجه أسرع وأسهل، وأسأل الله أن يكون شفاؤه نهائيا لا عودة للمرض معه.
وقصة اكتشاف المرض مبكرا إحدى نعم الله، فقد لعبت الصدفة أو بالأصح فضل الله دورا في تخفيف وطأة المرض، فلم تفلح الفحوصات السنوية التي يجريها الغذامي في اكتشاف المرض، ولم يكن الإحساس الخفيف به يوحي بخطورته، وعندما سافر إلى بريطانيا لم يكن سفره لأجل العلاج بل للسياحة، وبعد استجابة متأخرة مترددة لدعوة كريمته وزوجها، اضطر بعدها للبحث عن رحلات عاجلة إلى لندن. بعد مرور العارض الخفيف عليه، ذهب وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلى المستشفى، وبعد رؤية الطبيب، وطلبه فحوصات، يتذكر أنه كان سيغادر المستشفى بلا عودة، لو قيل له أن أخذ التحاليل والأشعة سيتأخر، لكنهم قطعوا عليه تردده عندما كان ذلك فوريا. أخبره الطبيب في الزيارة الثانية بشكوكه، فطلب الغذامي منه استئصال الكلية المتضررة كاملة، فتحفظ الطبيب في البداية على القرار قبل تأكده من المرض واستشارته لأطباء آخرين.
أكتفي بهذا القدر من اللقاء الثاني، فلم آخذ إذن الغذامي في نشره، وأعود لذكريات اللقاء الأول محاولا التشبث بما بقي منه في الذاكرة، وكما هي القاعدة في كل مدونة فإن أي خطأ في نقل المعلومات سببه ذاكرتي وصاحبها، ولا يلام المنقول عنه في شيء من ذلك.
أول معرفة حقيقية للدكتور عبدالله الغذامي كانت بعد قراءتي لكتابه "الحداثة"، وأقول حقيقية لأن الكتاب هو عقل وقلب كاتبه، وهما ما يحتاجه المرء للتعرف على آخر. الغذامي قال أيضا إنه يكرر دائما مسؤوليته عمّا في كتبه فقط وليس عما يكتب عنه أو على لسانه في الصحافة، ومن أراد محاسبته فليحاسبه على ما جاء بين ثنايا كتبه، ولذلك ليس من عادته النفي أو مكالمة أحد لتصحيح ما جاء في صحيفة، ولهذا أيضا ذكر أنه لم ينتبه لخطأ اسمه الأول في قصيدة قديمة كنتُ نشرتُها في "تويتر" بعد أن وجدتها في أرشيف صحيفة "الجزيرة":
أردفت قراءة الكتاب الأول له بكتاب "الخطيئة والتكفير"، وكان ذلك رغبة في استرجاع تاريخ أبرز حركة ثقافية مرّت ببلادنا وهي "الحداثة"، كان كتاب "الخطيئة والتكفير" سببا في هجوم طال أمده على الغذامي من قبل مناوئي الحداثة، ولم يكن وحيدا أمام تيار المناوئين بل كان معه مجموعة من النقاد والشعراء الذين تجاوز الجور في الخصومة بحقهم الجانب الأدبي الثقافي إلى الاجتماعي. لم أرتح -بعد قراءة بعض نتاج الطرفين- لمنهجية مناوئي الحداثة التي تعسفت في تفسير بعض النصوص الأدبية لإثبات شيطنتها. بعد هذه القراءات استمرت قراءتي لمؤلفات الغذامي ومقالاته، وأرى أنه تميز عن مجايليه ولاحقيه من النقاد بنزعته إلى الشعبي أكثر من النخبوي، ولذلك تحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، واقترب من الناس باستقراء التأثير الثقافي لبعض الظواهر الاجتماعية. ولعل هذا ما حوله من مجرد ناقد أدبي إلى مفكر مجتمعي.
أول معرفة حقيقية للدكتور عبدالله الغذامي كانت بعد قراءتي لكتابه "الحداثة"، وأقول حقيقية لأن الكتاب هو عقل وقلب كاتبه، وهما ما يحتاجه المرء للتعرف على آخر. الغذامي قال أيضا إنه يكرر دائما مسؤوليته عمّا في كتبه فقط وليس عما يكتب عنه أو على لسانه في الصحافة، ومن أراد محاسبته فليحاسبه على ما جاء بين ثنايا كتبه، ولذلك ليس من عادته النفي أو مكالمة أحد لتصحيح ما جاء في صحيفة، ولهذا أيضا ذكر أنه لم ينتبه لخطأ اسمه الأول في قصيدة قديمة كنتُ نشرتُها في "تويتر" بعد أن وجدتها في أرشيف صحيفة "الجزيرة":
أردفت قراءة الكتاب الأول له بكتاب "الخطيئة والتكفير"، وكان ذلك رغبة في استرجاع تاريخ أبرز حركة ثقافية مرّت ببلادنا وهي "الحداثة"، كان كتاب "الخطيئة والتكفير" سببا في هجوم طال أمده على الغذامي من قبل مناوئي الحداثة، ولم يكن وحيدا أمام تيار المناوئين بل كان معه مجموعة من النقاد والشعراء الذين تجاوز الجور في الخصومة بحقهم الجانب الأدبي الثقافي إلى الاجتماعي. لم أرتح -بعد قراءة بعض نتاج الطرفين- لمنهجية مناوئي الحداثة التي تعسفت في تفسير بعض النصوص الأدبية لإثبات شيطنتها. بعد هذه القراءات استمرت قراءتي لمؤلفات الغذامي ومقالاته، وأرى أنه تميز عن مجايليه ولاحقيه من النقاد بنزعته إلى الشعبي أكثر من النخبوي، ولذلك تحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، واقترب من الناس باستقراء التأثير الثقافي لبعض الظواهر الاجتماعية. ولعل هذا ما حوله من مجرد ناقد أدبي إلى مفكر مجتمعي.
أردت أن أتوج هذه المعرفة القرائية بلقائه، ولم تكن تسمح لي فترة إقامتي القصيرة بالرياض بانتظار أمسية يقيمها أو محفل يحضره، فتواصلت معه في "تويتر"، وكان كما هو كريما في تواصله مع الناس في وسائل التواصل كريما في رده، ووقاني من مصيدة الوليمة ظرف سفري الطارئ الذي قدّره فتقابلنا في نفس يوم الاتصال.
اتفقنا على اللقاء بعد صلاة المغرب مباشرة ليكون هناك متسع من الوقت للحديث، صلّيت بمسجد اعتقدته مجاورا للمنزل، وبعد الخروج من الصلاة سألت أحد المصلين عن بيته، فأجاب بمعرفته بسكنى الغذامي بالقرب لكن لا يعرف بالتحديد بيته، وحمّلني إيصال محبته ومتابعته لكتاباته.
بعد الاستزادة من الوصف، وصلت منزله فوجدته -من كرمه وحسن ضيافته- واقفا بالقرب من منتصف الشارع حتى يضمن عثوري على المنزل. بادرته ونحن في الطريق للمجلس بالاستفسار عن عدم حضوره حفل مرور خمسين عاما على نشأة النادي الأدبي بالرياض، وإذا ما كان السبب مقاطعته الشهيرة للأندية الأدبية، فرد أن المقاطعة كانت بسبب نظام تعيين الرؤساء الذي عارضه مطالبا بمنح المثقفين والأدباء حرية انتخاب واختيار من يمثلهم. وبعد تحقق هذا الطلب لم يعد هناك سبب للمقاطعة، ولكنه قليل الخروج في الليل.
تشعّب الحديث، وكانت كل ساعة منه كتابا من الفائدة والثراء. تطرّق إلى الابتعاث إلى المملكة المتحدة في السبعينات عندما كان المبتعثون لا يتجاوزون العشرين، منهم مبتعثة واحدة كانت على نفقة الملك فيصل رحمه الله. كان ابتعاثه في أدنبرة مسرحا للكثير من التجارب والخبرات، شارك مع مظاهرات للتنديد بتخاذل الأمم المتحدة، ويتذكر أن الباكستانيين كانوا أصحاب خبرة في تنظيم المظاهرات، من ضمن ما فعلوه رفعهم نعشا كُتب عليه "الأمم المتحدة" ليعلنوا وفاتها وتشييعها، وفي الصباح ركّزت الصحف على هذه الرسالة الإيحائية في صورها وتقاريرها.
ولا يتذكر أن أحداً فرض عليه إملاءات أو منعه من الخروج في المظاهرات الداعمة للقضايا العربية والإسلامية، عكس أحد المبتعثين العراقيين الذي كان يظهر الحماس للقضايا القومية، فلما فرح الطلاب العرب والمسلمون بقرار الملك فيصل إيقاف تصدير النفط ردا على دعم الغرب لإسرائيل، فوجئوا بتبدل موقفه، ومعارضته للقرار، متحججا أنه سيحرمهم من المال الكافي للتزود بأحدث الأسلحة. وفي الصباح بعدما تناقلت وكالات الأنباء موقف النظام البعثي العراقي المعارض لإيقاف تصدير النفط علموا سر تبدل موقف زميلهم، وأن دافعه الخوف من حزب البعث لا الحرص على مصلحة الأمة العربية.
![]() |
* بطاقة القطارات للغذامي عندما كان طالبا في جامعة إكستر |
سألته إن كانت هذه التجربة قد أفادته عندما أدار واحدة من الأمسيات الثقافية التاريخية، بل أشهرها، حين اجتمع الحداثيون مع مناوئيهم في قاعة واحدة. أقيمت هذه الأمسية عام 1982 في نادي جدة الأدبي، وتحدث عنها الغذامي في كتابه "حكاية الحداثة"، كان شعراء الأمسية -من اليمين إلى اليسار- أحمد عائل فقيهي ومحمد الثبيتي ومحمد جبر الحربي وعبدالله الصيخان، وكان هناك مجموعة من النقاد البارزين. يذكر الغذامي أن الأمر كان مجردة أمسية شعرية نقدية لشعراء شباب، لكن بلغه قبل الأمسية حضور مجموعة كبيرة من أصحاب الرأي المعارض للحداثة، وخشية انفراط عقد الأمسية، وتبعثرها بالفوضى والسجالات التي تحرم الحضور الفائدة، استقر رأيه على أن يعلن منذ البداية عن نظام حازم لبرنامج الأمسية، وهو تقسيمها إلى أربع فقرات، الأولى الاستماع إلى قصائد الشعراء، والثانية مناقشة القصائد، والثالثة الاستماع إلى الرأي النقدي التنظيري عن الحداثة، وتخص الفقرة الرابعة وجهة النظر المخالفة للحداثة الشعرية، ومرت الأمسية المناظرة بسلام كما مرت مساجلة أدنبرة.
حدثته عن شكري لنادي جدة الأدبي على نشرهم الأمسية وعتبي على عدم إدراجهم للجزء الأخير منها المثير للجدل، لأنها تعد وثيقة تاريخية أدبية بكل محاسنها وعيوبها، ومن الأمانة الأدبية نشرها كاملة لمعرفة آراء جميع الأطراف.
حدثته عن شكري لنادي جدة الأدبي على نشرهم الأمسية وعتبي على عدم إدراجهم للجزء الأخير منها المثير للجدل، لأنها تعد وثيقة تاريخية أدبية بكل محاسنها وعيوبها، ومن الأمانة الأدبية نشرها كاملة لمعرفة آراء جميع الأطراف.
كنت معجبا بوصية توفيق الحكيم في طبع كتبه بنسخات شعبية حتى لا يثقل على أحد شراؤها، فوجدت أن الغذامي ينشرها بالمجان على موقعه على الانترنت، سألته عن سر هذا التصرف، فأجاب أنه لم يبحث في يوم من الأيام عن الربح المادي، وأنه لجأ إلى نشرها على الانترنت بعدما لمس صعوبة وصولها إلى بعض القراء، ففي إحدى المرات طلبت منه قارئة من فلسطين المحتلة كتابا فشلت كل محاولاتها في الحصول عليه، فأرسل لها الكتاب عن طريق شركة بريد عالمية، ومع ذلك لم يصلها، وهناك قراء من دول ليس فيها خدمات بريدية جيدة كبعض الدول الأفريقية، لذلك وجد أن أفضل طريقة هي نشره في الانترنت ليستطيع أي قارئ الوصول إليه. وعما إذا كان ذلك سيضايق الناشر أجاب باتفاقه مع الناشر الذي لم يمانع في توفيرها على فضاء الانترنت. ورغم عدم اعتراض الغذامي على فكرة توقيع الكتب، لكنه يتحرج شخصيا من رؤية القارئ يشتري الكتاب أمامه ثم يأتي به ليوقعه.
![]() |
*الغذامي في مكتبته المنزلية |
*تنويه: الصور المرفقة منقولة بتصرف من موقع الدكتور عبدالله الغذامي
No comments:
Post a Comment