Thursday, August 21, 2014

لقاء مع المطر (١)

لقاء مع المطر (١)



-هل يناسبك غداً مساءً أن نلتقي؟. 
-سأكون بعيداً عن لندن، لكني بالتأكيد سأعود إليها من أجل اللقاء. 
-لا، لا تضغط على نفسك، لندعها في يومٍ آخر. 
-أبداً، كنت أنتظر هذا اللقاء، وأخاف أن يطول الموعد، سأقابلك إن شاء الله. 
-إذن، نلتقي إن شاء الله في محطة (.....)، أعرف مقهى هادئا قريباً منها، نستطيع فيه الحديث بعيدا عن الضجيج.


لم يكن صاحب الاتصال المفاجئ سوى الشاعر الكبير أحمد مطر، وبالمصادفة كان موعدي في الغد في مدينة (ستاتفورد أبون إيفن) مدينة الشاعر الإنجليزي العظيم ويليام شكسبير، فكأن يوم الغد سيكون يوم الشعراء الذين وضعوا لهم في تاريخ الأدب بصمة مميزة لا يشابههم فيها أحد سواهم.

بدأت علاقتي بكلمات أحمد مطر عندما نشرت له لافتاته، ولم يكن النشر بمفهوم دور النشر التي تطبع للمؤلفين وتبلع حقوقهم، بل طبعتها في طابعة شخصية، وصففتها وغلفتها لأحتفظ بها، فدواوينه لا توجد في المكتبات، والبحث عن كتاب له يشبه البحث عن شجرة تفاح في صحراء قاحلة.

لا أظن أني وحدي في هذا التقدير له والإعجاب بنصوصه، ولا أستغرب محبة الناس له، فقد قضى حياته يكتب بنصل القلم، ويتعرض للتهديد من أجل شعره، كان بإمكانه أن يبيع نزاهته في أقرب سوق عربي للضمائر المستعملة، وأن يمدح الحكومات بدل أن يعاديها، لكنه بقي صامدا في زمن المتبدلين، واعتكف بعيدا عن الناس والشهرة والأضواء، زاهدا في ذلك كله، مريحا نفسه من الإغراءات، ومريحا الحكومات من همّ ملاحقته. شخصٌ بهذه المواصفات كفيل بالمحبة، فما بالك إن زاد عليها شعراً ليس من السهل استنساخه، فقد شكّل خطاً مميزا، وخليطا فريدا، بجمعه شعر التفعيلة بالسخرية المرة، وتجديده في فن الهجاء بأفكار مبتكرة، وأسلوب بسيط الكلمات عميق المعاني سهل التداول، إلى غير ذلك من أشكال الإبداع في شعره مما يمكن الرجوع فيه للقراءات النقدية.

بحثت عنه وعن كل وسيلة توصلني إليه، حتى تطوّع صديق مشترك بإعطائي رقمه، ناصحا إياي بعدم التعب في محاولة لقائه، لأنه اعتزل الجميع حتى أقرب أصدقائه، ولن يقابل -بعد هذا كله- غريباً لا يعرفه. قمت بشرف المحاولة، وكان على الخط الآخر، زوجته الفاضلة، عرفت فيما بعد من أصدقائه أنها كانت الوسيلة الوحيدة للاطمئنان عليه وعلى صحته بعد أن اختار العزلة، ردّت علي بلطف أنه لا يستطيع لقاء أحد، ووعدتني بإبلاغه بالاتصال. كان هذا الاتصال ذو الدقائق المعدودة قبل سنوات، وطوال هذه السنوات لم يخفّ شغفي باللقاء، لكن شيئا ما كان يدفعني لاحترام عزلته، إحساسي بها، حسناً أعترف بأنها تمرني بين فينة وأخرى، وأقساها كانت بعد وفاة والدي رحمه الله، كان حتى اتصال أقرب شخص للقلب حدثا مزعجا، خشيت أن أكون ضيفا ثقيلا على هاتفهم، فلم أتصل إلا ربما مرة واحدة خلال هذه السنوات، حتى كانت شائعة وفاته، فكان لا بد من الاتصال للتأكد. 

انتشرت شائعة وفاته بقوة، وأصبحت كأنها حقيقة، رفعت السماعة لأتأكد من هذا الخبر المشؤوم، ردّت علي زوجته بلطفها المعتاد: يا ولدي هو الآن في مراجعة عادية في المستشفى، وبخير ولله الحمد، سألتها، ألم يكن منوّما؟. فأجابت لا، ذهب بنفسه لموعده. كنت أحادثها، وأنا أخشى أن أكون قد نقلت إليها من غير قصد- هذا الخبر المؤلم الذي لم يصل إليها بعد. 

بعد إغلاق الهاتف، نشرت في "تويتر" تكذيباً لهذه الشائعة، لكن حجم انتشارها كان رهيبا، ساعدت وسائل إعلامية ورقية وفضائية في نشر الشائعة في صفحاتها وقنواتها. وتعرّضتُ حينها للتكذيب لأني حسب زعم البعض أنقل عن زوجته رغم أنها توفيت من سنوات، وكأنّ قتله لم يكفيهم فألحقوا به زوجته، مدّ الله في عمريهما، ورزقهما الصحة والعافية. ومع ذلك ساهم النفي الذي نشرته -بالإضافة إلى ما نشره إخوة أفاضل اتصلوا هم أيضا بأهله وتأكدوا من سلامته- في مكافحة هذه الشائعة. 

وبعدما اتصلت في اليوم الثاني، كانت المفاجأة عندما تحدث إليّ أحمد مطر شاكراً على تكذيب الشائعة، فلم يكن باستطاعته -وهو المبتعد عن العالم والإعلام- إيصال نفي وفاته. لم يكن ما فعلته يستحق الشكر، لكن روحه الخيّرة -التي يأسرها أي عمل حسن تجاهه حتى لو كان ضئيلا- جعلته يخرج عن صمته ليوصل شكره، حدّثني بحزن عن ما أحدثته هذه الشائعة، قال إنها ليست المرة الأولى التي تقتله الشائعات، لكن هذه المرة هي الأعنف، فقد بلغه أن القناة العراقية نشرت الخبر، وكان من الصعب أن يسمع حزن أخواته، وقلق إخوته، كان متعجباً من الجرأة على تلفيق خبر قاس مثل هذا، من أشخاص لا يراعون وقعه في نفوس أهل ضحية الإشاعة وأحبابه، وذكر أن أمه لو كانت على قيد الحياة ووصلها هذا الخبر المكذوب لربما ماتت حين سماعه، فقد كان أحمد مطر أصغر إخوته الذكور الذين ذهب اثنان منهما ضحية النظام البعثي، وسأعرج للحديث عن طفولته، وبقية ما يمكن نشره مما دار في اللقاء لاحقاً، مع خالص الاعتذار على تجزئة الحديث، فإنّ وقتي البخيل لم يمنحني اليوم سوى دقائق معدودة لكتابة هذه الكلمات.




2 comments:

  1. شكرًا جزيلا على مشاركتك لهذه التجربة معنا يا فائق..
    أنا في الرابعة و العشرين من العمر و تربيت على شعر أحمد مطر منذ أن كنت في الثانية عشر!
    كان شعره هو أنيسي في أوقات كثيرة في حياتي عندما لم يفهمنا أحد قبل الثورات و بعدها كانت الأحداث الجارية تشبه نبوءات تحققت من شعره..

    ننتظر كتابتك عنه على أحر من الجمر، الكثير منا يتمنى لو أنه كان حاضرًا معنا بشخصه أكثر من ذلك لكن ندعو الله أن يخفف عنه، هو حي و موجود بيننا بشعره و كلماته الثاقبة حتى لو لم يكن من رواد التويتر و الفايس بوك

    ReplyDelete
  2. بارك الله فيك حبيبنا الأديب الأريب
    لقد أحسنت لشاعرنا الكبير
    وأحسنت لنا إذ أخذت بنا إلى عوالمه المحلقة بالإبداع والخصوصية الفذة

    دمت متميزا
    وننتظر من قلمك الجديد

    محبك
    أيمن بن أحمد ذوالغنى

    ReplyDelete