لقاء مع المطر (٣)
وصلنا إلى المقهى، لم يكن لأول وهلة يوحي بالهدوء، لكن جلساته الداخلية الواقعة في بهو لعمارة تجارية كانت ركناً هادئاً صامتاً لا يعرفه إلا الموظفون المشغولون الآن في مكاتبهم. استفسرت منه عن طلبه، واقترحت عليه اختيار طاولة والجلوس حتى أجلب الطلب، غير أنه رفض، وأصر أن يدفع الحساب، ظللنا نتجادل كصديقيّ دراسة، لا كتلميذٍ مع أستاذه، لم يتركني حتى ذكرت له امتلاكي لبطاقة عضوية قد تريحنا كلنا من الدفع بما فيها من نقاط. اقتنع بهذا الحل الوسطي، واختار طاولة مؤشّراً لي بمكانها.
هذا الرجل الذي رفض حتى قيمة كوب قهوة كان بإمكانه طلب مئات الجنيهات الأسترلينية مقابل هذا اللقاء أو بالمصطلح الإعلامي "الخبطة الصحفية" التي يكسر فيها حاجز الصمت والعزلة الذي كان وفيّاً له سنين لا أستطيع إحصاءها، يذكر هو أنها بدأت مع مرضه عام ٢٠٠٥، أما أنا فحسب اطلاعي المتواضع أرى أنها بدأت منذ عام ١٩٨٧، منذ مقتل ناجي العلي رحمه الله.
وقصة المبلغ المادي للقاء صحفي لم أختلقها، بل سعيت فيها في اتصالي الأول، فمن شغفي باللقاء عرضت أن يكون لصحيفة معروفة وبمقابل مادي يطرحه أحمد مطر، وكنت عزمت إذا وافق أن أبحث عن مستضيف وراعٍ لهذا اللقاء الذي ينشده أي رئيس تحرير، وقد تحدثت مع زملاء ومسؤولين في صحف عن هذه الرغبة في حوار موسع معه. كان الرد من زوجته، أنّه سبق أن طُرحِت عليه عروضٌ كثيرة من هذا القبيل ولكنه رفضها. سُدّ وقتها كلّ باب أمامي إلا باب الأمل، الذي انفتح -بفضلٍ من الله- لوحده.
أخفقت من شدة الحماس في قراءة من أريد لقاءه، لم يكن بالماديّ الذي تغريه الأموال، كان زاهداً في زيف الحياة وفتنها، كان فعلاً -كما حدّثني في أول اتصال- بسيطاً جدا، وعبّر حينها عن عدم رضاه عن أي تضخيم له، ومقته لكل أشكال التضخيم التي صنعت الطغاة.
قبل أن أكتب عن ما دار في اللقاء، هناك نقاطٌ لا بد من ذكرها حتى لا يخيب أمل القارئ، وأولها أنّ مجريات الحوار ستكون منزوعة من دسم الإثارة، فأحمد مطر الذي لا يتردد في تفجير الحكومات -بلا استثناء- بهجائه اللاذع الذائع لا يرضى أن يمس عربياً غيرها بسوء سواء كان ذلك العربي سياسيا أم مثقفا، حتى وهو يسرد الحقائق بتفاصيلها وأسماء أبطالها إيجابا أو سلبا، الحقائق التي كان قريبا منها، والتي لم يعرفها الإعلام، كان يؤكد أن ما يقوله ليس للنشر.
وأنا سأظل وفيّاً لهذه الرغبة، احتراما للثقة التي شرّفني بها، وخشية أن تأتيه ضوضاء الإعلام من قِبَلي، وهو الذي اختار البعد عنها والزهد فيها، لا أريد أن يجد في هذه المدونة عن اللقاء ما يغضبه، ويزيد من زهده في الخروج إلى الإعلام، بل أتمنى أن يكون اللقاء وكتابتي عنه وتفاعل محبيه وتعقيباتهم وأمنياتهم في أن يعود للوسط الشعري والإعلامي، أن يكون هذا كلّه جسراً يأخذه من جديد إلى العالم الذي أغلق في وجهه الباب غير عابئ بكل ما فيه من ثناء وإشاعات وسرقات شعرية. كنت ألح عليه بالخروج ليحفظ ما دام حيّاً شعره، وينقّحه من الافتراءات التي نسبت إليه، ومن المزيّفين الذين يستغلون اسمه دون علمه، وليتواصل مع محبيه الذين كشفت وفاءهم إشاعة وفاته، وتكشفها الآن فرحتهم برؤية صورته سليما معافى، قلت له إنه قاسى طوال حياته واغترابه، وهو يزرع الشعر والمعاناة، ولمّا جاء وقت حصاد ثمرة ذلك، محبة الناس، تركهم ورحل.
وحتى أكون في حلٍّ من وعد عدم النشر وحلً من كتمان شهادة تاريخية، ذكرت له أني سأحتفظ بالقصص والأسماء، وقد أنشرها إذا أمدّ الله في العمر، في وقتٍ لم تعد تضرّ فيه أو تنفع أحداً، إنما تُسرد كحقائق تاريخية نحن مؤتمنون عليها ما دمنا شهودها، ربما تشبهها في ذلك أنظمة الإفراج عن الوثائق في الحكومات الغربية بعد عقود من الزمن، وبعد أن تنتهي مخاطر وأضرار نشرها.
النقطة الأخرى الهامة التي تستحق التنويه هي أن ما أكتبه على لسان أحمد مطر بتصرّف، فلم أكن أحمل معي سوى ذاكرتي، التي رجوتها أن لا تخذلني هذه المرة في الاحتفاظ بالمسميات والأرقام، كنت أساعدها بتدوين بعض رؤوس الأقلام في مفكرة الجوال، لكن لما رآني منهمكا بإصبعي في كبس الشاشة طلب أن لا أنشغل به، فأخرجت سلاح الذاكرة الاحتياطي قلم ونوتة صغيرة، ودونت فقط كلمات معدودة لمساعدة الذاكرة في تخزين المعلومات، لذلك فإن أي خطأ في السرد والمعلومات هو مني ومن سوء حفظي.
وصلت الطاولة حاملاً كوبَي القهوة، ولم أذكر كيف بدأ الحديث حول غزّة، إلا أن ذلك يدلّ على أن الهمّ الفلسطيني والمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني هو الساكن في ضميره، تعجّب من التفرّق العربي حول قضية العرب والمسلمين، فبعد أن كانت القضيّة تجمع العرب كلّهم على اختلاف توجهاتهم، أصبحوا متفرّقين حولها. أخبرته أن خالد مشعل -رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- استخدم شطرا من قصيدته "حكاية عباس": "اصقل سيفك يا عباس" في خطابه خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم.
تحدّث أحمد مطر عن طفولته في بلدة "تنومة" في محافظة البصرة، عن طبيعته العنيدة المتمردة في شبابه، عن نهمه للقراءة منذ الصغر، عن العراق ونخيله، عن بعض الرؤساء ممتدحا فترة رئاسة عبدالرحمن عارف الهادئة القصيرة التي لم تدم سوى سنتين. ذكر أن الكتب في العراق كانت تباع بأسعار زهيدة حتى بمقياس ذلك الزمان، وتأتي من كل مكان، والمجلات تفد من لبنان ومصر، كانت البيئة تشجع على القراءة والمعرفة، وقد ألزم نفسه في تلك الأيام بقراءة ثلاثة كتب يومياً، لم يكن مهماً حجم الكتاب وعدد صفحاته، أية ثلاثة كتب يختارها يلزم نفسها بإنهائها في نفس اليوم. وفي سن الثانية عشرة -هكذا يهيء لي أني سمعتها- ذهب إلى مدير المدرسة، طالبا منحه خطابا يعينه على الاستعارة من المكتبة العامة، تعجّب مدير المدرسة مصطفى النجار -الذي أصبح لاحقا مديراً لمركز لدراسات الخليج والجزيرة العربية- وسأله عما إذا كانت مكتبة المدرسة لا تكفيه، فردّ بأنّه لم يجد الكتاب الذي يريده فيها، سأله المدير عن اسم الكتاب، فأجابه مطر: البؤساء، فسأله مختبرا: ومن مؤلفه؟، فأجاب: فيكتور هوجو. ابتسم مدير المدرسة ومسح على رأسه، وأعطاه الخطاب الذي طلبه.
بدأ مطر في كتابة الشعر في الرابعة عشر من العمر، وساعده أخوه الأكبر عندما أخذ القصيدة لأحد الأساتذة لمعرفة رأيه فيها، فتفاجأ بها مستغرباً أن يكتب صبي في هذا السن قصيدة مثلها، ثم لما تأكّد من أنه صاحبها عدّل فيها ليستقيم الوزن، واستمرً مطر في الاستشارة في وزن قصائده، حتى قرر أن يتوقّف عن ذلك، ويعتمد على نفسه في وزن القصيدة، فبحث بين الكتب عن تعليم الأوزان، وكانت رحلة البحث مضنية، لأن الكتب وقتها لم تكن مبسطة، حتى وقع على كتاب درسه بعناية إلى أن أصبح ملماً بعروض الشعر وأوزانه، ومستغنيا بذاته عن استشارة غيره في كتابة الشعر. وما يزال ممتناً لأستاذه "نوري الفخري" مدرس اللغة العربية في الصف الأول متوسط، لفضله الكبير عليه، وتشجيعه غير العادي له في تلك السن على تطوير موهبة الشعر والاهتمام بها.
سألته عما إذا كان قد كتب شعر الغزل في بداياته، فأجاب: نعم، كان معتزاً ببداياته في الشعر، تمنيّت لو حصلت على نماذج من هذه البدايات الشعرية، ومن شعره الغزلي، ولعل ذلك يكون قريباً بإذن الله.
سألته عما إذا كان قد كتب شعر الغزل في بداياته، فأجاب: نعم، كان معتزاً ببداياته في الشعر، تمنيّت لو حصلت على نماذج من هذه البدايات الشعرية، ومن شعره الغزلي، ولعل ذلك يكون قريباً بإذن الله.
هذا ما سمح به وقتي هذه الليلة، وسأتحدث لاحقا إن شاء الله عن قصته مع منتحلي شخصيته، ومع ناجي العلي، وقصائده القريبة منه، والمرأة التي بهرته وكتب عنه.
No comments:
Post a Comment