Monday, August 25, 2014

لقاء مع المطر (٤)

لقاء مع المطر (٤) 


انتقلنا إلى سيرة ناجي العلي، من الصعب شرح تعابير أحمد مطر ونبرات صوته بعدما مرّ اسم ناجي العلي، تغيّر تماماً، ازدادت سرعة حديثه، كان كمن يحبس الدمعة كي لا تخرج، ويكتم الآهة في داخله، فتغص حنجرته بالكلمات، أحسست وقتها أن تعابيره وملامحه تقول لي: يا أخي، أنتم لا تعرفونه حق المعرفة، لو عرفتموه كما عرفته لما مررتم على اسمه إلا والحزن يأكل قلوبكم والدمع يتساقط من عيونكم. 

عندما جاء ذكر ناجي العلي للمرة الثانية، كنا بجانب بوابة الميترو مستعدّين للمغادرة، ومع ذلك لم يسمح مطر أن يمر اسم ناجي من غير أن يوفي سيرته حقها، وقف، والتفت إلي، وعاد نفس الحزن والغصة إلى ملامحه وصوته، كأنه جندي يقف في الذكرى السنوية لصاحبه الجندي الذي سقط بشجاعة في أرض المعركة.



كان أحمد مطر كمن وجد توأمه عند لقائه بناجي العلي في الكويت، توافقت روحاهما فتآلفتا، يتشاركان صفة الشجاعة والشهامة والطيبة، والتمرد على الطغيان، ومحاربة فساد السلطات. جعلا صحيفة القبس في الثمانينات شعلة من النشاط، وجحيما إعلاميا لكل فساد سياسي، تزايدت الضغوط فهاجرا أو هُجّرا معاً إلى لندن، حيث استمرا في العمل في مكتب صحيفة القبس هناك. 

كان الانتقاد في تلك الأيام شجاعة غير مأمونة العواقب، فترة الثمانينات حفلت بالاغتيالات السياسية واختطاف الطائرات والتفجيرات وملاحقات المخابرات، ولكن ناجي العلي لم يأبه بهذا كله، لا خوف ولا كتمان لديه، ما يتردد في السر يحيله هو في العلن كاريكاتيراً شامتاً شاتماً بالأسماء والحقائق الصريحة. 




تزايد أعداؤه وكثر طلاّبه، وجاءته تحذيرات بترك لندن لأن اغتياله قادم، ومع ذلك لم يبدّل أيّا من مواقفه، ولم يوقف ريشته عن قصف كل من يراه خائنا للقضية مستفيدا من الفساد. 

يروي أحمد مطر أنه كان قبل الاغتيال بأيام في بيت ناجي الذي أصر عندما أراد المغادرة على توصيله إلى منزله رغم بعد المنزلين. في الطريق كان ناجي يرفض فكرة الخروج من لندن، "بعثونا ع لندن، فيه أبعد من لندن؟! لوين بدنا نروح؟!"، "يا عمّي اللي بدّه يطخّ يطخ"، قال له ناجي إنه مطمئن على وضع عائلته من بعد موته، بعدما أمّن لهم ما يعيشونه به حياة كريمة من بعده.

الشيء الوحيد الذي كان يخافه ناجي أن يتلطّخ فلسطيني بدمه، "تعرف يا أحمد، أتمنى اللي يقتلني ما يكون فلسطيني"، الدم الفلسطيني خط أحمر، هو فقط يريدهم أن يحسنوا قتلته بألا يلوثوا بدمه فلسطينيا من بني جلدته وبني قضيته التي تغرّب وحورب من أجل دفاعه عنها. ولكنهم -كائنا من كان قاتلوه- لم يحققوا له هذه الرغبة، فكلّفوا بهذه المهمة القذرة فلسطينيا، كما لم تتحقق وصية دفنه في مخيم الحلوة لتعانق عظامه تربتها، بعد أن حالت الظروف الأمنية من تحقيق هذه الأمنية. 


توفي ناجي العلي -أو بالأصح "استشهد" كما يقول أحمد مطر كلما ورد ذكر مقتله- في ٢٩ أغسطس عام ١٩٨٧، وعمره ٥١ عاما، كان عمر أحمد مطر حينها ٣٦، سألته كيف كانت صداقتكما بهذه القوة رغم الفارق العمري؟، أجاب: كانت روح ناجي الشابة تصغره بأعوام، كان يحمل روح الفتى الشاب الثائر المتقد حماسا، كان كلا منا يثق بالآخر، يفضفض للآخر، اشتركنا في مواجهة غربة جديدة علينا، كنا نتساءل: "ماذا عملنا؟! قتلنا؟! أجرمنا؟!". كنا نختلف في بعض وجهات النظر، لكنا نلتقي عند نقطة الصدق، لا يكذب أحدنا على الآخر، ولا يبيع أيٌّ منّا مبادئه.

"أُثقِلتُ جدّاً بموت ناجي" قال مطر، كان من المفروض أن نلتقي بعد نصف ساعة من اغتياله، كنت أعد لكتابي "لافتات ٢"، وبجاني "إلياس نصر الله" الذي استقبل مكالمة أخبرته بحادثة الاغتيال، هرعنا جميعاً إلى المستشفى، وبعدها بساعات نقل إلى مستشفى آخر. اخترقت الطلقة صفحة وجهه خارجة من النخاع الشوكي، لو كانت خرجت من مكان آخر لربما نجا ناجي، لكنه الأجل المحتوم. 

كنت أزوره يومياً في المستشفى -الكلام لأحمد مطر-، أراه مسجى على السرير، يتمتم محاولا الكلام ولا يستطيع، أحسست أن لديه كلاما كثيرا يودّ قوله لي، وأنا واقف أمامه، أبكي. كان الحوار بينهما بالعيون، حوار كلام مكبوت في صدر ناجي ودمع منهمر من عين مطر. 

الموقف الأصعب كان في المقبرة، نزل مطر وجوهر العلي -أخو ناجي الأكبر- في القبر لدفن جثمان الفقيد، قال جوهر، وهو يضع ناجي بين أحضان الأرض: كان ناجي يحب رائحة الأرض، فأجابه أحمد مطر: ناجي هو الأرض، واغتسلت بعدها تربة القبر بدموعهما.



كتب أحمد مطر مقالا نشرته مجلة الأداب البيروتية بعنوان "الأرض عندما تتنكّر بهيئة إنسان" يرثي فيه ناجي الإنسان المرتبط بالأرض المحب لها المدافع عنها:


ورثاه بقصيدة ـأحسبها من عيون الشعر العربي-، رغم إن عنوانها "ما أصعب الكلام" إلا أنها قالت كل ما يمكن أن يقال من الكلام عن هذا الفارس العربي الذي امتطى صهوة اللوحة وامتشق ريشته ليحارب الفاسدين المدججين بالأسلحة


وسأستكمل إن شاء الله الحديث عن موقف أحمد مطر من النثر، ومن شعراء السلطة، وهيلين كيلر في جزء لاحق.


3 comments:

  1. لاتطل الانتظار استاذ فائق..

    دمت بخير

    ReplyDelete
  2. حوار رااااااائع وشيق جدا نحن عل احر من الجمر بانتظار القادم
    سرد راااائع وضيف ولا اروع جوهرتان جميلتان
    فلا تحرمنا منهما
    شكرا لك

    ReplyDelete
  3. الله ثم الله على هكذا سرد وهكذا لقاء
    اكتوبر الماضي كنت أقطع الطريق من محطة المترو لدار الساقي بلندن ، وتشابهت على الطرقات بالطريق الذي قُتل فيه ناجي بعد مشاهدتي وثائقي عرض تفاصيل وفاة ناجي -التي صدمت الآن بأن تلميحات التورط الفلسطيني حقيقة فعلية -
    فسألت البائع العراقي الذي يتحدث فصاحة ومعرفة عن شارع ناجي العلي فجلس وترحم عليه وأشار لخريطة على طاولته بأنها ليست قريبة ولا بعيدة من هنا
    رحم الله ناجي وأطال الله في عمر أحمد مطر
    شاعر الروح والكرامة والوجع

    وإنه والله ياحظك

    ReplyDelete