لقاء مع المطر (٥)
لا أتذكر كيف وصلنا إلى سيرة “هيلين كيلر”، وما صلتها بما سبقها من حديث، كل ما أتذكره أن أحمد مطر تحدث عنها بإعجاب، أحسست وكأنها رافقته أيام محنته، أو كأنه تذكر صبرها عندما كان بحاجة إلى الصبر، وشجاعتها في مقاومة إعاقتها عندما كان يقاوم السرطان، شرح كيف استطاعت هذه المرأة -وهي المفتقدة لمقومات العيش كالأصحاء- أن تفوقهم في إنجازها وكفاحها، تحدث عن معلمتها (آن سوليفان) وكيف صنعت بمثابرتها وإخلاصها نفساً متوقدة وعقلا متفتحا من جسد لا حراك به سوى قلبه وعقله. كتب مطر عنها مقالا اسمه “المبصرون”، لمّا رجعت إلى المقال بعد اللقاء، وجدته استعرضه كأنه يقرأه بكل تفاصيله، فلم أجد تفسيرا لاستحضاره دون سائر المقالات إلا تمثّله إياها أثناء حربه الشرسة مع المرض.
انتقد أحمد مطر شعراء مشهورين لم يأذن لي في نشر أسمائهم، وسبب الانتقاد قرب هؤلاء من السلطة، يقول: “الشاعر لا يكون سلطويا حتى لو كان أبوه سلطانا، الشاعر يجب أن يكون إنساناً”، وهذا الانتقاد منه ليس غريبا، فقد قضى عمره في محاربة السلطات القمعية، وبالنسبة إليه فأي شاعر يحابيها وينافقها من أجل مصالحه سيفقد أهم ما يملكه الشاعر، نزاهته وقربه من الناس وكفاحه من أجلهم.
وعندما تطرٌّقت للصورة التي جمعته مع نزار قباني وأدونيس وبلند الحيدري وناجي العلي، امتدح تلك الفترة وأدباءها، قال إن نزار وبلند والبياتي وأدونيس وآخرين كانوا من الجيل الذي سبقهم، وكانت تجمعهم صفة مشتركة هي الدماثة، وهي التي جعلت العلاقات بينهم عامرة بالللطف والمودة، حتى نزار قباني -رغم جرأة قصائده- كانت صفته الحياء في تعامله مع الآخرين.
يرفض أحمد مطر مسميّات قصيدة النثر والشعر الحر، هو يرى أن تسمى الأشياء بمسمياتها، الشعر هو الكلام الموزون المقفّى (تصحيح وتوضيح من أحمد مطر عن هذه الفقرة على هذا الرابط) ، ولو سلّمنا بالاستغناء عن القافية رغم أهميتها، فإنه لا يمكن بأي حال الاستغناء عن الوزن، فجمال القصيدة في جرسها الموسيقي الذي يضيف للكلمات اللحن والنغم. وهو يرى أن هناك مبدعون في كتابة النثر، لكن ذلك لا يعني تسمية نصوصهم شعرا، وحتى عندما كتب هو نصوصاً نثرية لم يسمّها شعرا، وكانت مجلة الحدث الكويتية قد نشرت له كتيبا صغيرا مرافقا للمجلة احتوى نصوصا نثرية بعنوان “أحاديث الأبواب”.
اشتكى من القصائد المنسوبة زورا إليه، والتي لا تحمل أسلوبه وتخالف مبادئه، فمنها مثلا ما يحمل نفَساً طائفية، ومنها المكتوب بأسلوب ركيك يستطيع تمييزه محبو الشعر، ومن القصائد التي اشتكى منها قصيدة مطلعها “يا رسول الله عذرا” قال أحمد مطر: من أنا لأعتذر لرسول الله؟!. وقال إنه توقف عن النشر منذ ٢٠١٠ حتى تاريخ كتابة هذه المدونة، فأي قصيدة منشورة خلال تلك الفترة ليست له.
الغريب أن السرقة والانتحال لم تكن للنصوص فقط بل تعدّت إلى انتحال الشخصية، فقد انتشر قبل سنوات أن أحمد مطر ظهر في محافظة الرقة بسوريا وألقى قصائده هناك في محفل عام،
خبر في صحيفة عن "أحمد مطر" المزيف
تقبّل كثيرون الأمر وكأنه حقيقة، وتعجبوا كيف غيّر الزمن من شكله وهيئته، رغم الفروقات في الملامح والطول بين الشاعر ومنتحل شخصيته، أطلعته على صورة المنتحل، سائلاً، إن كان هذا المقصود؟ فرد بالإيجاب. قرأتها في تلك الأيام واستغربت الاختلاف الكبير، لكن لم يكن أحد يستطيع التأكد حينها لابتعاد أحمد مطر عن الإعلام.
الغريب أن السرقة والانتحال لم تكن للنصوص فقط بل تعدّت إلى انتحال الشخصية، فقد انتشر قبل سنوات أن أحمد مطر ظهر في محافظة الرقة بسوريا وألقى قصائده هناك في محفل عام،
خبر في صحيفة عن "أحمد مطر" المزيف
تقبّل كثيرون الأمر وكأنه حقيقة، وتعجبوا كيف غيّر الزمن من شكله وهيئته، رغم الفروقات في الملامح والطول بين الشاعر ومنتحل شخصيته، أطلعته على صورة المنتحل، سائلاً، إن كان هذا المقصود؟ فرد بالإيجاب. قرأتها في تلك الأيام واستغربت الاختلاف الكبير، لكن لم يكن أحد يستطيع التأكد حينها لابتعاد أحمد مطر عن الإعلام.
نادراً ما تجد شاعراً يفضّل قصائد له على غيرها، فهو يراها جميعا كبناته، لا يدلل إحداها دون الأخرى، رغم أن الأبناء أحيانا قد يختلف حجم الحب لهم ومستوى القرب منهم حسب طباعهم. أحمد مطر كسر القاعدة، فعندما تطرقنا لقصيدة “حكاية عباس” قال إن بعض القصائد نالت شهرة أكثر من قصائد أخرى كانت تستحق شهرة أكبر، وهذا لا ينفي أن هذه القصائد نالت ما تستحقه من الاحتفاء، وكأمثلة على تلك القصائد؛ ذكر:
قصيدة “انحناء السنبلة”:
وقصيدة “استدراك”:
لاحظت أن القصائد التي ذكرها لم تكن مثل غالبية شعره تحمل روح الهجاء الشديد للأنظمة، قد يكون الشاعر خشي على هذه القصائد وما نثره فيها من إبداع من الإهمال في ظل اهتمام الناس بالقصائد المباشرة التي تنوب عنهم في السخرية من أعدائهم، وفي قصيدته "استدراك" كان كمن يحاور نفسه، يتحدث عن عذاباته ومعاناته، التي كان يقاسيها وحده من أجل تلك القصائد الجريئة التي يتداولها الناس، كان حاله كمناضل يقف على المنصة شاتماً ومعريّاً الطغاة، فيصفق له الناس ويهللون ويكبرون، ثم يستفرد به الطغاة خلف الكواليس، فيسومونه سوء العذاب، ليُبعد عن الوطن العربي بلا ذنب سوى أنه كان عربيا ناطقا بالحقيقة في زمن الزيف، ويُهجّر إلى أرضٍ لا تشبه أشجارها نخيل أرضه الأم، ولا سحنة أهلها تشبه سحنة أهله التي لوّنتها الشمس بريشتها، ولا لغتهم كلغته التي رضعها منذ الصغر، وأخلص لها حتى كافأته بوضعه في مرتبة شعرائها النجوم.
أسمعته أمسية قديمة له بغرض معرفة تاريخها ومكانها، فذكر أنها كانت في عام ١٩٨٤ في كلية الحقوق بجامعة الكويت، كان حينها مصابا بالزكام، ولكن لم يستطع الاعتذار بعد التزامه بهذه الدعوة.
لم يكن اللقاء سيكتمل دون التطرّق للثورات، التي طالما كانت أشعاره شعارات لها، لقد بدأ الثورة قبل عقود، فكان نصيبه الإبعاد والملاحقة والتضييق، يقول إن ولده نقل إليه الخبر وهو على سرير المرض، فلم يستطع حتى إظهار الفرح حينها، لكنه كان سعيدا -في داخله- بأن السنوات التي قضاها طريدا مشرّدا لم تذهب هدرا. في الأيام التي تلتها، شاهد النهاية البائسة للثورات، لكن مع ذلك ما زال محتفظاً بالأمل، متفائلاً بتحسن الحال في المستقبل، قال إنه مع كل الثورات، وضد كل الأنظمة الطاغية، "يكفي الثورات أنها أعادت الأمة العربية إلى الحياة، من كان يصدّق أن هذه الجثة الهامدة التي تسمى الأمة العربية ستثور على صمتها! وستُبعث فيها الحياة لتقول: لا للطغيان!، انهار جدار الخوف، وهذا هو الأهم، لأنه سيجبر الحكومات على تغيير معاملتها للشعوب، بعد أن فهموا أن إغضابها سيسقط عروشهم، لن يعود الزمن للوراء، إلى ما كانت عليه الحال من ذل واستعباد".
فاتني أثناء الجلوس معه أن أطلب من أحد تصويرنا، ولم أتذكر التصوير إلا بعد خروجنا من المقهى، وحدث ما توقعته من رفضٍ مبدئي، فطبيعته الزاهدة في الأضواء والفلاشات جعلت صوره نادرة، آخر صورة التقطت له مرّ عليها عقد أو أكثر من السنوات، اعتذر طالباً تأجيلها، لم يكن يرغب أن يجده محبوه على حال من الإنهاك والتعب، وهو الخارج للتو من معركة شرسة مع المرض لم ترحل آثارها بعد، قاده كرمه إلى الموافقة بعد فاصل من الإقناع، ولأنه لم يكن أحد معنا فقد كانت صورتنا المشتركة "سيلفي" احتفظت بها لذكرى شخصية جميلة، ونشرت الصورة التي حمدت الله أني أخذت الإذن في نشرها، فلولاها لربما اتُهمت أني أحاور شخصية خيالية، وأن ما أكتبه هو حلقة من سلسلة الافتراءات على الشاعر الكبير، وانتحال قصائده وشخصيته. وهي الصورة التي طمأنت محبي الشاعر على صحته، خاصةً بعد انتشار شائعة وفاته على نطاق واسع.
بنهاية الجزء الخامس انتهت قصة اللقاء مع المطر أحمد مطر، وأريد في الختام التذكير أن كلماته كانت بتصرف مني، اعتمدت فيها على ما علق في الذاكرة، فأي خطأ في إيصال تعبيره وعباراته أتحمله، وأتمنى أن يكون هذا اللقاء باكورة عودة شاعرنا الكبير إلى الحياة العامة، كي يحمي شعره من التزييف، ويتواصل بشكل مباشره مع محبيه الذين بادلوه الوفاء والعرفان لما قدمه من تضحية في التمسك بمواقفه ومبادئه رغم الإغراءات والتهديدات.
شكرا لمجهودك استاذ ..
ReplyDeleteهل سيعود شاعرنا الكبير الى كتابة الشعر و المقالات؟ و هل تستطيع ان تقترح عليه انشاء مدونة؟
لقاء نادر جدا تحسد عليه يا فائق مع شخصية أدبية من النوع الفاخر, سنوات طويلة والناس تبحث عن مطر حتلى بلغ بهم اليأس وأنت بجهودك الذاتية استطعت الجلوس معه ومحاورته في وقت عجزت عنه كل , امبراطوريات الإعلام وأجهزتها العملاقة من مجرد تصويره أو أخذ تعليقه فقط على بعض الأحداث , شكرا لك يا فائق وشكرا للشاعر الأسطورة
ReplyDeleteأسعدك الله كما أسعدتنا فقد حققت صعباً وأنعشت آمالاً قديمه فلقاء أحمد مطر من أمنياتي الغاليه التي. بفضلك - ربما- لم تعد مستحيلة.
ReplyDeleteتحياتي لك ولأحمد مطر
شكرا يا أخي الكريم, لقد استفدت منك كثيرا حيث كنت في بحث عن الشاعر الكبير, حين قرأت كل مقالتك كأنني سايرت مع الشاعر الكبير.
ReplyDelete