Friday, August 22, 2014

لقاء مع المطر (٢)

لقاء مع المطر (٢) 



انتهى الاتصال سريعاً كأن لم يبدأ، فقد كان الحديث لا يملّ، لكنّي قبل نهايته تمسكت بآخر خيوط الأمل، تمنّيت أن يزيد غلّة كرمه، ويتبع هذه المكالمة بلقاءٍ يكون ثمرة هذا الانتظار الطويل، ومكافأةً لما رآه جميلاً وأراه قليلاً، وعدني بتلبية الطلب، ولكن ليس الآن لأنه للتو خارج من معركته مع السرطان، وبحاجة لفترة نقاهة. سألته إن كان يريد مني تذكيره بعد مدة معينة، خشية أن ينسى وعد اللقاء، فأجاب أن لا حاجة لذلك، وسيتذكره بإذن الله. 

مرّ أكثر من شهر على الاتصال، وبدأ اليأس يتسلل إليّ، لم أكن أستطيع الاتصال خشية أن أكون ملحاحاً، حتى كان اتصاله المفاجئ، ظهر اسمه على شاشة "الجوّال"، وأجبت، وأنا وسط التخمينات عن سبب هذا الاتصال، حتى أن إحدى هذه التخمينات حاولت إحباطي بأن الأمر كله لن يكون سوى خطأ، وأنه أراد الاتصال بشخص آخر، تبدّدت تلك الأفكار السوداء بسؤال مباشر منه عن إمكانية اللقاء في الغد، حتى آخر الحوار الذي كتبته في بداية الجزء الأول. 

بقيت مشكلة التعرف عليه، آخر صورة له كانت قبل عقد أو ربما عقدين، وبعد هذه السنين لابد أن شكله تغيّر، ولم تعد ملامحه كما هي، وهو لا يردّ على جوال، وحلقة الوصل الوحيدة معه هاتف المنزل. كمحاولة للتقريب ذكر لي أن من ملامحه الطول، وأنه سيلبس جاكيتاً أسوداً، أما أنا فلم أستطع وصف نفسي له، بل ذكرت له مازحاً أن تصميمي مطابق لمواصفات معظم سكان الخليج في لون البشرة الحنطي وفي الطول، فليس هناك مواصفات خَلقية لافتة للانتباه، ولم أكن أستطيع وصف ملبسي الذي سأخرج به، لأني لا أعرف في الغد ما سألبس، فمن عاداتي السيئة أني أنثر ما في الخزانة من ملابس قبل دقائق من خروجي، وأحتار في الاختيار، وقد أنتهي إلى ما لبسته بالأمس وقبل الأمس وقبله وقبله. انتهى الأمر على تأكيد مطر أن لا خوف من عدم التعرف عليه أو عليّ، فالدم العربي يحنّ، وسنعرف بعضنا من غير جهد أو تعب. 


في اليوم التالي، عدت إلى لندن قبل ساعتين من الموعد، كانت كافية لوضع حقيبتي وتغيير ملابسي، وطباعة بعض الأوراق، وكتابة إهداء له على كتابي أو لنقل تجربتي الأولى مع الورق، استقلّيت بعدها القطار متجهاً إلى المحطة، وصلت قبل الموعد بعشر دقائق، واكتشفت أن بوابات محطة الميترو بدل أن تكون اثنتين أصبحت ثلاثة! وكان الموعد على الجانب الأيمن من إحدى البوابات، أًصبحت أتفحص الوجوه المتحركة والواقفة، ولأنّ الوقت هو موسم السياحة في لندن، كانت أكثر الوجوه عربية الملامح حتى يخيّل لزائرها أنه أخطأ الوجهة وحطّ في بلد عربي. اقتربت الساعة من الرابعة عصراً، وكان هذا توقيت الموعد، تنقّلت بين البوابات خوفاً من أن أكون قد أخطأت تحديد البوابة، ثم قرّرت أن أقف في مكان يكشف الداخلين والخارجين من بوابتين.

الرابعة عصراً ولم يظهر شاعرنا العزيز، أمسكت بالجوّال وقد فكرت في الاتصال على بيته للاطمئنان إن كان خرج أم لا، لكن قبل أن أجري الاتصال، ظهر رجل طويل، أبيض الشعر، أنيق الهندام، لم يستغرق الأمر سوى نظرة أولى لمعرفة أنه أحمد مطر، احتفظ ببعض ملامحه القديمة التي لم يستطع المرض ولا الزمن سلبها من محياه، أهمها مسحة الحزن، وهي العلامة المميزة لكل عراقي. يولد الطفل في العراق وفي جيناته كروموسومات حزينة، الذي لا يحملها يُعدّ طفرة جينية، تنساب هذه الجينات على ملامح وجوههم، على أشعارهم، رواياتهم، على أغنياتهم، مواويلهم، عَتاباتهم. هي موجودة في كل شبر في العالم العربي الحزين لكنها في العراق تزداد وضوحا.  


ناديته قبل أن يعبر من أمامي، أستاذ أحمد، ثم بكنيته، التفت باسماً، ذكر أنه كان واقفاً على يمين إحدى البوابات، ثم جرّب أن يبحث بنفسه. مازحته قائلا أنه أصبح أكثر وسامة من قبل، ومشينا إلى مقهى يعرفه، اختاره لهدوئه، وبعده عن الضجيج، في الطريق سألته إن كان سمع بوفاة سميح القاسم، كان خبر وفاته قد وصلني بعد مكالمته وقبل لقائه، أجاب أنه علم به، وتأثر بسماعه، فقد كان سميح القاسم وفيّا عندما اتصل ليطمئن عليه أثناء معاناته مع السرطان، وذكر أنه سيبحث عن رقم أهله ليعزيّهم.

كان سميح القاسم قد بدا في آخر تكريم له وكأنه في حفل تأبين، بان عليه أثر المرض، وكأنه قد رفع راية الاستسلام له منتظرا قدره. 



كانت آثار المحنة الأخيرة مع السرطان ما تزال على تقاسيم وجه أحمد مطر، شحوب وإنهاك يقاومهما بابتسامته، ذكر أنه زاره في البداية  عام ٢٠٠٥، وشُخّص على أنه سرطان لمفاوي بدرجة منخفضة، تشافى منه بعد العلاج، لكن شعر بعد سنوات بألم حاد، وساعده تنبيهه للأطباء بتعرضه من قبل للسرطان في تكثيف الفحوصات، فأُخِذت عينة من جانب الرقبة لفحص ما إذا كان هناك ورم سرطاني، وبعد التحليل تبين أن العدو الشرس (السرطان) قد عاد ولكن بدرجة عالية هذه المرة. وابتدأت رحلة العلاج المؤلمة، ألم العلاج الكيماوي ومهدئات الألم الفظيع التي قد تؤدي للإدمان لمن يسيء استخدامها. 

خاض مطر معركة عنيفة مع المرض، معركة شخص أعزل إلا من إيمانه وصبره أمام عدوّ شرس غادر بسلاح فتّاك، لذلك ذكر أثناء الحديث أن هذا الصراع تسبب في انعزاله، وإلا فقد كان قبلها اجتماعياً. 






إذا كان أبو العلاء رهين المحبسين البيت والعمى، فإن أحمد مطر رهين المحبسين البيت أيضا والمرض، ولكن أحمد مطر يذكر سبباً آخر دفعه للاعتزال، إنه "الخيبات"، الخيبات في الأصدقاء، وتبدّل مواقفهم، الخيبات في العالم العربي، وتحوّله من سيء إلى أسوأ. 

بالنسبة لي أعتبر أن الأخيرة هي السبب الرئيسي في عزلته، بالإضافة إلى حدثٍ مفجع، موجع، ما يزال ألمه في صدر كل محب لحرية الرأي، وعاشق لمقاومي الطغيان، وبالتأكيد سيكون وجعه أكبر على الصديق القريب جدا من ناجي العلي، ولهذا الحدث وصاحبه وقفة قادمة إن شاء الله.



4 comments:

  1. كم أرجو أن تطول هذه السلسلة
    هنيئًا لك أستاذ فائق

    ReplyDelete
  2. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  3. شكرًا جزيلا على الكتابة أخي فائق
    و على السماح لنا بالاطلاع على عالم شاعرنا الكبير و لو من بعيد..
    نشتاقه كثيرًا و نتمنى لو كان بإمكاننا أن يعلم كم له من محبين و ملهمين
    في انتظار القادم على أحر من الجمر

    ReplyDelete
  4. ندعو الله ان يتم شفاءه ويعود إلي محبيه كامل العافية

    ReplyDelete