Wednesday, November 5, 2014

بائعة الكتب

بائعة الكتب



لفت انتباهي وأنا أتنقل بين رفوف الكتب في مكتبة "ووترستون" وريقات صغيرة وضعت على الرفوف تحت بعض الكتب، اقتربت من إحداها، قرأتها فوجدت فيها عرضاً ملخصا وتقييماً -مكتوباً بخط اليد- للكتاب الذي فوقها، تعوّدت على التقييم في موقع "قودريدز" لكن لأول مرة أجده مكتوباً في مكتبة تجارية. استغليت فرصة قلة الزبائن لأسأل البائعة خلف "الكاونتر" عن سر هذه الملخصات، أجابت بأن موظفات المكتبة وموظفيها يقومون أحيانا بعد قراءة كتاب بكتابة انطباعاتهم حوله. سألتها إن كان هذا مفروضا عليهم من إدارة المكتبة، فنفت قائلة إنها لم تشاهد خطابا يجبرهم على ما فعلوه، بل هو تقليد وجدته منذ التحقت بالمكتبة قبل خمسة عشر عاما، وما زالت تمارسه منذ ذلك الحين. وذكرت أنهم لا يمانعون من تعليق ملاحظات الزبون لو أتى بها، قلت لها إن التعليقات حول الكتب كلها إيجابية، فماذا لو وجدت كتابا سيئا، أيسمح لها بتعليق ملاحظات سلبية عنه؟ فأجابت: ليس هناك كتاب سيء، ما أجده سيئا قد يعتبره غيري جيدا. 





إذا أردت من أحد أن يتحدث بحماس وفرح فأسأله عن هوايته، هذا ما بدا لي وأنا أستمع للبائعة بعد أن استطردَت في الحديث عن الكتب، كانت عاشقة للقراءة محبة للكتب قبل أن تكون بائعة يقتلها روتين العمل. كانت فخورة بعملها لأنه يتيح لها قراءة الكتب حتى قبل الإعلان عن صدورها في الأسواق، ويتركها بين الكتب فلا تشعر بالملل لو للحظات وهي تتصفح هذا الكتاب وتقرأ ذاك دون أن تدفع بنساً واحداً، وتحرص على أن تكون هداياها لأصدقائها وأسرتها في أعياد ميلادهم وأعياد "الكريسماس" كتبا تناسب هواياتهم وأعمارهم. 


تحدّثَتْ عن الفارق الكبير بين إبداع الروايات وتواضع الأفلام المأخوذة عنها، وكرهها لمشاهدة الأفلام بعد قراءة رواياتها الأصلية. استشهدت على ذلك برواية "الرحلة الطويلة" للبولندي سلومير راويز الذي ادعى فيها هروبه عام ١٩٤١ من معسكر اعتقال روسي في سيبيريا مع ستة معتقلين، وروى فيها المصاعب التي واجهتهم، وتعرّض بعضهم للوفاة حتى وصولهم أخيرا إلى الهند. اشتهرت هذه الرواية في بريطانيا، وادّعى بعض المعتقلين السابقين أنهم أبطال القصة الحقيقيون، فيما كشف تحقيق للبي بي سي أجري عام ٢٠٠٦ واعتمد على كشوفات المعتقلات الروسية أن سلومير راويز أُطلِق سراحه ورحّل إلى مخيمات لاجئين في إيران، وأن قصة هروبه مختلقة. هذه الرواية تحولت عام ٢٠١٠ إلى فيلم لكن بعنوان آخر "رحلة العودة" قالت عنه البائعة أنه شوّه جمال العمل الروائي في الكتاب الأصلي. 

نفس الشيء توقعَته لفيلم "فتاة راحلة" المعروض حاليا في دور السينما والذي يقوم ببطولته بن أفليك، الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم لجيليان فلين، نشرت عام ٢٠١٢ ولاقت نجاحاً كبيرا جعلها من أكثر الكتب مبيعا حسب قائمة نيويورك تايمز. 



أشاركُ البائعة نفس الشعور تجاه الأفلام المأخوذة عن الروايات، أتذكّر نقاشاً دار بيني وبين معلمي البريطاني - أيام ابتعاثي في أمريكا-  عن أفضلية الفيلم أو الرواية، بعد أن كتبتُ مقالا كأحد واجبات تعلم اللغة، ذكرت فيه البون الشاسع بين إحساسي برواية "العجوز والبحر" لهيمنجواي، وبين تضاؤل هذا الإحساس أثناء مشاهدتي لفيلم مأخوذ عنها، أتذكر أني قرأت الرواية لأول مرة وحيداً في غرفتي، كان هيمنجواي بارعاً لدرجة تجعل القارئ يكاد يشعر بالبلل من الأمواج التي تجعل المركب يترنح كسكّير جريح. ويتخيّل الموج وكأنه جبلٌ لا قمة له يهجم على العجوز البائس الذي يأبى أن يودّع قوته وأمجاد شبابه. أفضل مخرجٍ يعجز عن مجاراة خيال القارئ في تصوير الحدث، وإلباس شخوص الرواية وأماكنها لباس الواقع. في "شفرة دافنشي" لدان براون حدث العكس، شاهدتُ الفيلم الذي بطله توم هانكس قبل قراءة الرواية، ولمّا قرأت الرواية كنت كمن لم يشاهد فيلما عنها قطّ من شدة اختلاف التفاعل معهما. 



ودّعت البائعة بعد هذا الحوار الممتع معها، وسألت نفسي وأنا أخرج من المحل، هل يوجد في بلداننا العربية بائع للكتب يعشق مهنته؟ كهذه التي قضت خمس عشرة سنة من حياتها مستمتعة بعملها قانعة به محافظة عليه؟.

ربما على المكتبات عامها وخاصها أن تطوّر ثقافة العمل لديها، لتجعل من موظفيها عشاقا لما يبيعون وما يتعاملون معه، وتمنحهم التقدير والرضا الوظيفي والتحفيز الذي يجعلهم يفنون أعمارهم لخدمة الكتاب وقرائه. 


Wednesday, August 27, 2014

لقاء مع المطر (٥)

لقاء مع المطر (٥) 



لا أتذكر كيف وصلنا إلى سيرة “هيلين كيلر”، وما صلتها بما سبقها من حديث، كل ما أتذكره أن أحمد مطر تحدث عنها بإعجاب، أحسست وكأنها رافقته أيام محنته، أو كأنه تذكر صبرها عندما كان بحاجة إلى الصبر، وشجاعتها في مقاومة إعاقتها عندما كان يقاوم السرطان، شرح كيف استطاعت هذه المرأة -وهي المفتقدة لمقومات العيش كالأصحاء- أن تفوقهم في إنجازها وكفاحها، تحدث عن معلمتها (آن سوليفان) وكيف صنعت بمثابرتها وإخلاصها نفساً متوقدة وعقلا متفتحا من جسد لا حراك به سوى قلبه وعقله. كتب مطر عنها مقالا اسمه “المبصرون”، لمّا رجعت إلى المقال بعد اللقاء، وجدته استعرضه كأنه يقرأه بكل تفاصيله، فلم أجد تفسيرا لاستحضاره دون سائر المقالات إلا تمثّله إياها أثناء حربه الشرسة مع المرض.



انتقد أحمد مطر شعراء مشهورين لم يأذن لي في نشر أسمائهم، وسبب الانتقاد قرب هؤلاء من السلطة، يقول: “الشاعر لا يكون سلطويا حتى لو كان أبوه سلطانا، الشاعر يجب أن يكون إنساناً”، وهذا الانتقاد منه ليس غريبا، فقد قضى عمره في محاربة السلطات القمعية، وبالنسبة إليه فأي شاعر يحابيها وينافقها من أجل مصالحه سيفقد أهم ما يملكه الشاعر، نزاهته وقربه من الناس وكفاحه من أجلهم. 



وعندما تطرٌّقت للصورة التي جمعته مع نزار قباني وأدونيس وبلند الحيدري وناجي العلي، امتدح تلك الفترة وأدباءها، قال إن نزار وبلند والبياتي وأدونيس وآخرين كانوا من الجيل الذي سبقهم، وكانت تجمعهم صفة مشتركة هي الدماثة، وهي التي جعلت العلاقات بينهم عامرة بالللطف والمودة، حتى نزار قباني -رغم جرأة قصائده- كانت صفته الحياء في تعامله مع الآخرين. 




يرفض أحمد مطر مسميّات قصيدة النثر والشعر الحر، هو يرى أن تسمى الأشياء بمسمياتها، الشعر هو الكلام الموزون المقفّى (تصحيح وتوضيح من أحمد مطر عن هذه الفقرة على هذا الرابط) ، ولو سلّمنا بالاستغناء عن القافية رغم أهميتها، فإنه لا يمكن بأي حال الاستغناء عن الوزن، فجمال القصيدة في جرسها الموسيقي الذي يضيف للكلمات اللحن والنغم. وهو يرى أن هناك مبدعون في كتابة النثر، لكن ذلك لا يعني تسمية نصوصهم شعرا، وحتى عندما كتب هو نصوصاً نثرية لم يسمّها شعرا، وكانت مجلة الحدث الكويتية قد نشرت له كتيبا صغيرا مرافقا للمجلة احتوى نصوصا نثرية بعنوان “أحاديث الأبواب”. 

اشتكى من القصائد المنسوبة زورا إليه، والتي لا تحمل أسلوبه وتخالف مبادئه، فمنها مثلا ما يحمل نفَساً طائفية، ومنها المكتوب بأسلوب ركيك يستطيع تمييزه محبو الشعر، ومن القصائد التي اشتكى منها قصيدة مطلعها “يا رسول الله عذرا” قال أحمد مطر: من أنا لأعتذر لرسول الله؟!. وقال إنه توقف عن النشر منذ ٢٠١٠ حتى تاريخ كتابة هذه المدونة، فأي قصيدة منشورة خلال تلك الفترة ليست له.

الغريب أن السرقة والانتحال لم تكن للنصوص فقط بل تعدّت إلى انتحال الشخصية، فقد انتشر قبل سنوات أن أحمد مطر ظهر في محافظة الرقة بسوريا وألقى قصائده هناك في محفل عام،

خبر في صحيفة عن "أحمد مطر" المزيف

تقبّل كثيرون الأمر وكأنه حقيقة، وتعجبوا كيف غيّر الزمن من شكله وهيئته، رغم الفروقات في الملامح والطول بين الشاعر ومنتحل شخصيته، أطلعته على صورة المنتحل، سائلاً، إن كان هذا المقصود؟ فرد بالإيجاب. قرأتها في تلك الأيام واستغربت الاختلاف الكبير، لكن لم يكن أحد يستطيع التأكد حينها لابتعاد أحمد مطر عن الإعلام.





نادراً ما تجد شاعراً يفضّل قصائد له على غيرها، فهو يراها جميعا كبناته، لا يدلل إحداها دون الأخرى، رغم أن الأبناء أحيانا قد يختلف حجم الحب لهم ومستوى القرب منهم حسب طباعهم. أحمد مطر كسر القاعدة، فعندما تطرقنا لقصيدة “حكاية عباس” قال إن بعض القصائد نالت شهرة أكثر من قصائد أخرى كانت تستحق شهرة أكبر، وهذا لا ينفي أن هذه القصائد نالت ما تستحقه من الاحتفاء، وكأمثلة على تلك القصائد؛ ذكر: 

قصيدة “انحناء السنبلة”: 




وقصيدة “استدراك”: 



لاحظت أن القصائد التي ذكرها لم تكن مثل غالبية شعره تحمل روح الهجاء الشديد للأنظمة، قد يكون الشاعر خشي على هذه القصائد وما نثره فيها من إبداع من الإهمال في ظل اهتمام الناس بالقصائد المباشرة التي تنوب عنهم في السخرية من أعدائهم، وفي قصيدته "استدراك" كان كمن يحاور نفسه، يتحدث عن عذاباته ومعاناته، التي كان يقاسيها وحده من أجل تلك القصائد الجريئة التي يتداولها الناس، كان حاله كمناضل يقف على المنصة شاتماً ومعريّاً الطغاة، فيصفق له الناس ويهللون ويكبرون، ثم يستفرد به الطغاة خلف الكواليس، فيسومونه سوء العذاب، ليُبعد عن الوطن العربي بلا ذنب سوى أنه كان عربيا ناطقا بالحقيقة في زمن الزيف، ويُهجّر إلى أرضٍ لا تشبه أشجارها نخيل أرضه الأم، ولا سحنة أهلها تشبه سحنة أهله التي لوّنتها الشمس بريشتها، ولا لغتهم كلغته التي رضعها منذ الصغر، وأخلص لها حتى كافأته بوضعه في مرتبة شعرائها النجوم. 


أسمعته أمسية قديمة له بغرض معرفة تاريخها ومكانها، فذكر أنها كانت في عام ١٩٨٤ في كلية الحقوق بجامعة الكويت، كان حينها مصابا بالزكام، ولكن لم يستطع الاعتذار بعد التزامه بهذه الدعوة.




لم يكن اللقاء سيكتمل دون التطرّق للثورات، التي طالما كانت أشعاره شعارات لها، لقد بدأ الثورة قبل عقود، فكان نصيبه الإبعاد والملاحقة والتضييق، يقول إن ولده نقل إليه الخبر وهو على سرير المرض، فلم يستطع حتى إظهار الفرح حينها، لكنه كان سعيدا -في داخله- بأن السنوات التي قضاها طريدا مشرّدا لم تذهب هدرا. في الأيام التي تلتها، شاهد النهاية البائسة للثورات، لكن مع ذلك ما زال محتفظاً بالأمل، متفائلاً بتحسن الحال في المستقبل، قال إنه مع كل الثورات، وضد كل الأنظمة الطاغية، "يكفي الثورات أنها أعادت الأمة العربية إلى الحياة، من كان يصدّق أن هذه الجثة الهامدة التي تسمى الأمة العربية ستثور على صمتها! وستُبعث فيها الحياة لتقول: لا للطغيان!، انهار جدار الخوف، وهذا هو الأهم، لأنه سيجبر الحكومات على تغيير معاملتها للشعوب، بعد أن فهموا أن إغضابها سيسقط عروشهم، لن يعود الزمن للوراء، إلى ما كانت عليه الحال من ذل واستعباد".

فاتني أثناء الجلوس معه أن أطلب من أحد تصويرنا، ولم أتذكر التصوير إلا بعد خروجنا من المقهى، وحدث ما توقعته من رفضٍ مبدئي، فطبيعته الزاهدة في الأضواء والفلاشات جعلت صوره نادرة، آخر صورة التقطت له مرّ عليها عقد أو أكثر من السنوات، اعتذر طالباً تأجيلها، لم يكن يرغب أن يجده محبوه على حال من الإنهاك والتعب، وهو الخارج للتو من معركة شرسة مع المرض لم ترحل آثارها بعد، قاده كرمه إلى الموافقة بعد فاصل من الإقناع، ولأنه لم يكن أحد معنا فقد كانت صورتنا المشتركة "سيلفي" احتفظت بها لذكرى شخصية جميلة، ونشرت الصورة التي حمدت الله أني أخذت الإذن في نشرها، فلولاها لربما اتُهمت أني أحاور شخصية خيالية، وأن ما أكتبه هو حلقة من سلسلة الافتراءات على الشاعر الكبير، وانتحال قصائده وشخصيته. وهي الصورة التي طمأنت محبي الشاعر على صحته، خاصةً بعد انتشار شائعة وفاته على نطاق واسع.



بنهاية الجزء الخامس انتهت قصة اللقاء مع المطر أحمد مطر، وأريد في الختام التذكير أن كلماته كانت بتصرف مني، اعتمدت فيها على ما علق في الذاكرة، فأي خطأ في إيصال تعبيره وعباراته أتحمله، وأتمنى أن يكون هذا اللقاء باكورة عودة شاعرنا الكبير إلى الحياة العامة، كي يحمي شعره من التزييف، ويتواصل بشكل مباشره مع محبيه الذين بادلوه الوفاء والعرفان لما قدمه من تضحية في التمسك بمواقفه ومبادئه رغم الإغراءات والتهديدات.

Monday, August 25, 2014

لقاء مع المطر (٤)

لقاء مع المطر (٤) 


انتقلنا إلى سيرة ناجي العلي، من الصعب شرح تعابير أحمد مطر ونبرات صوته بعدما مرّ اسم ناجي العلي، تغيّر تماماً، ازدادت سرعة حديثه، كان كمن يحبس الدمعة كي لا تخرج، ويكتم الآهة في داخله، فتغص حنجرته بالكلمات، أحسست وقتها أن تعابيره وملامحه تقول لي: يا أخي، أنتم لا تعرفونه حق المعرفة، لو عرفتموه كما عرفته لما مررتم على اسمه إلا والحزن يأكل قلوبكم والدمع يتساقط من عيونكم. 

عندما جاء ذكر ناجي العلي للمرة الثانية، كنا بجانب بوابة الميترو مستعدّين للمغادرة، ومع ذلك لم يسمح مطر أن يمر اسم ناجي من غير أن يوفي سيرته حقها، وقف، والتفت إلي، وعاد نفس الحزن والغصة إلى ملامحه وصوته، كأنه جندي يقف في الذكرى السنوية لصاحبه الجندي الذي سقط بشجاعة في أرض المعركة.



كان أحمد مطر كمن وجد توأمه عند لقائه بناجي العلي في الكويت، توافقت روحاهما فتآلفتا، يتشاركان صفة الشجاعة والشهامة والطيبة، والتمرد على الطغيان، ومحاربة فساد السلطات. جعلا صحيفة القبس في الثمانينات شعلة من النشاط، وجحيما إعلاميا لكل فساد سياسي، تزايدت الضغوط فهاجرا أو هُجّرا معاً إلى لندن، حيث استمرا في العمل في مكتب صحيفة القبس هناك. 

كان الانتقاد في تلك الأيام شجاعة غير مأمونة العواقب، فترة الثمانينات حفلت بالاغتيالات السياسية واختطاف الطائرات والتفجيرات وملاحقات المخابرات، ولكن ناجي العلي لم يأبه بهذا كله، لا خوف ولا كتمان لديه، ما يتردد في السر يحيله هو في العلن كاريكاتيراً شامتاً شاتماً بالأسماء والحقائق الصريحة. 




تزايد أعداؤه وكثر طلاّبه، وجاءته تحذيرات بترك لندن لأن اغتياله قادم، ومع ذلك لم يبدّل أيّا من مواقفه، ولم يوقف ريشته عن قصف كل من يراه خائنا للقضية مستفيدا من الفساد. 

يروي أحمد مطر أنه كان قبل الاغتيال بأيام في بيت ناجي الذي أصر عندما أراد المغادرة على توصيله إلى منزله رغم بعد المنزلين. في الطريق كان ناجي يرفض فكرة الخروج من لندن، "بعثونا ع لندن، فيه أبعد من لندن؟! لوين بدنا نروح؟!"، "يا عمّي اللي بدّه يطخّ يطخ"، قال له ناجي إنه مطمئن على وضع عائلته من بعد موته، بعدما أمّن لهم ما يعيشونه به حياة كريمة من بعده.

الشيء الوحيد الذي كان يخافه ناجي أن يتلطّخ فلسطيني بدمه، "تعرف يا أحمد، أتمنى اللي يقتلني ما يكون فلسطيني"، الدم الفلسطيني خط أحمر، هو فقط يريدهم أن يحسنوا قتلته بألا يلوثوا بدمه فلسطينيا من بني جلدته وبني قضيته التي تغرّب وحورب من أجل دفاعه عنها. ولكنهم -كائنا من كان قاتلوه- لم يحققوا له هذه الرغبة، فكلّفوا بهذه المهمة القذرة فلسطينيا، كما لم تتحقق وصية دفنه في مخيم الحلوة لتعانق عظامه تربتها، بعد أن حالت الظروف الأمنية من تحقيق هذه الأمنية. 


توفي ناجي العلي -أو بالأصح "استشهد" كما يقول أحمد مطر كلما ورد ذكر مقتله- في ٢٩ أغسطس عام ١٩٨٧، وعمره ٥١ عاما، كان عمر أحمد مطر حينها ٣٦، سألته كيف كانت صداقتكما بهذه القوة رغم الفارق العمري؟، أجاب: كانت روح ناجي الشابة تصغره بأعوام، كان يحمل روح الفتى الشاب الثائر المتقد حماسا، كان كلا منا يثق بالآخر، يفضفض للآخر، اشتركنا في مواجهة غربة جديدة علينا، كنا نتساءل: "ماذا عملنا؟! قتلنا؟! أجرمنا؟!". كنا نختلف في بعض وجهات النظر، لكنا نلتقي عند نقطة الصدق، لا يكذب أحدنا على الآخر، ولا يبيع أيٌّ منّا مبادئه.

"أُثقِلتُ جدّاً بموت ناجي" قال مطر، كان من المفروض أن نلتقي بعد نصف ساعة من اغتياله، كنت أعد لكتابي "لافتات ٢"، وبجاني "إلياس نصر الله" الذي استقبل مكالمة أخبرته بحادثة الاغتيال، هرعنا جميعاً إلى المستشفى، وبعدها بساعات نقل إلى مستشفى آخر. اخترقت الطلقة صفحة وجهه خارجة من النخاع الشوكي، لو كانت خرجت من مكان آخر لربما نجا ناجي، لكنه الأجل المحتوم. 

كنت أزوره يومياً في المستشفى -الكلام لأحمد مطر-، أراه مسجى على السرير، يتمتم محاولا الكلام ولا يستطيع، أحسست أن لديه كلاما كثيرا يودّ قوله لي، وأنا واقف أمامه، أبكي. كان الحوار بينهما بالعيون، حوار كلام مكبوت في صدر ناجي ودمع منهمر من عين مطر. 

الموقف الأصعب كان في المقبرة، نزل مطر وجوهر العلي -أخو ناجي الأكبر- في القبر لدفن جثمان الفقيد، قال جوهر، وهو يضع ناجي بين أحضان الأرض: كان ناجي يحب رائحة الأرض، فأجابه أحمد مطر: ناجي هو الأرض، واغتسلت بعدها تربة القبر بدموعهما.



كتب أحمد مطر مقالا نشرته مجلة الأداب البيروتية بعنوان "الأرض عندما تتنكّر بهيئة إنسان" يرثي فيه ناجي الإنسان المرتبط بالأرض المحب لها المدافع عنها:


ورثاه بقصيدة ـأحسبها من عيون الشعر العربي-، رغم إن عنوانها "ما أصعب الكلام" إلا أنها قالت كل ما يمكن أن يقال من الكلام عن هذا الفارس العربي الذي امتطى صهوة اللوحة وامتشق ريشته ليحارب الفاسدين المدججين بالأسلحة


وسأستكمل إن شاء الله الحديث عن موقف أحمد مطر من النثر، ومن شعراء السلطة، وهيلين كيلر في جزء لاحق.


Saturday, August 23, 2014

لقاء مع المطر (٣)

لقاء مع المطر (٣) 



وصلنا إلى المقهى، لم يكن لأول وهلة يوحي بالهدوء، لكن جلساته الداخلية الواقعة في بهو لعمارة تجارية كانت ركناً هادئاً صامتاً لا يعرفه إلا الموظفون المشغولون الآن في مكاتبهم. استفسرت منه عن طلبه، واقترحت عليه اختيار طاولة والجلوس حتى أجلب الطلب، غير أنه رفض، وأصر أن يدفع الحساب، ظللنا نتجادل كصديقيّ دراسة، لا كتلميذٍ مع أستاذه، لم يتركني حتى ذكرت له امتلاكي لبطاقة عضوية قد تريحنا كلنا من الدفع بما فيها من نقاط. اقتنع بهذا الحل الوسطي، واختار طاولة مؤشّراً لي بمكانها.


هذا الرجل الذي رفض حتى قيمة كوب قهوة كان بإمكانه طلب مئات الجنيهات الأسترلينية مقابل هذا اللقاء أو بالمصطلح الإعلامي "الخبطة الصحفية" التي يكسر فيها حاجز الصمت والعزلة الذي كان وفيّاً له سنين لا أستطيع إحصاءها، يذكر هو أنها بدأت مع مرضه عام ٢٠٠٥، أما أنا فحسب اطلاعي المتواضع أرى أنها بدأت منذ عام ١٩٨٧، منذ مقتل ناجي العلي رحمه الله. 

وقصة المبلغ المادي للقاء صحفي لم أختلقها، بل سعيت فيها في اتصالي الأول، فمن شغفي باللقاء عرضت أن يكون لصحيفة معروفة وبمقابل مادي يطرحه أحمد مطر، وكنت عزمت إذا وافق أن أبحث عن مستضيف وراعٍ لهذا اللقاء الذي ينشده أي رئيس تحرير، وقد تحدثت مع زملاء ومسؤولين في صحف عن هذه الرغبة في حوار موسع معه. كان الرد من زوجته، أنّه سبق أن طُرحِت عليه عروضٌ كثيرة من هذا القبيل ولكنه رفضها. سُدّ وقتها كلّ باب أمامي إلا باب الأمل، الذي انفتح -بفضلٍ من الله- لوحده. 

أخفقت من شدة الحماس في قراءة من أريد لقاءه، لم يكن بالماديّ الذي تغريه الأموال، كان زاهداً في زيف الحياة وفتنها، كان فعلاً -كما حدّثني في أول اتصال- بسيطاً جدا، وعبّر حينها عن عدم رضاه عن أي تضخيم له، ومقته لكل أشكال التضخيم التي صنعت الطغاة.  

قبل أن أكتب عن ما دار في اللقاء، هناك نقاطٌ لا بد من ذكرها حتى لا يخيب أمل القارئ، وأولها أنّ مجريات الحوار ستكون منزوعة من دسم الإثارة، فأحمد مطر الذي لا يتردد في تفجير الحكومات -بلا استثناء- بهجائه اللاذع الذائع لا يرضى أن يمس عربياً غيرها بسوء سواء كان ذلك العربي سياسيا أم مثقفا، حتى وهو يسرد الحقائق بتفاصيلها وأسماء أبطالها إيجابا أو سلبا، الحقائق التي كان قريبا منها، والتي لم يعرفها الإعلام، كان يؤكد أن ما يقوله ليس للنشر. 

وأنا سأظل وفيّاً لهذه الرغبة، احتراما للثقة التي شرّفني بها، وخشية أن تأتيه ضوضاء الإعلام من قِبَلي، وهو الذي اختار البعد عنها والزهد فيها، لا أريد أن يجد في هذه المدونة عن اللقاء ما يغضبه، ويزيد من زهده في الخروج إلى الإعلام، بل أتمنى أن يكون اللقاء وكتابتي عنه وتفاعل محبيه وتعقيباتهم وأمنياتهم في أن يعود للوسط الشعري والإعلامي، أن يكون هذا كلّه جسراً يأخذه من جديد إلى العالم الذي أغلق في وجهه الباب غير عابئ بكل ما فيه من ثناء وإشاعات وسرقات شعرية. كنت ألح عليه بالخروج ليحفظ ما دام حيّاً شعره، وينقّحه من الافتراءات التي نسبت إليه، ومن المزيّفين الذين يستغلون اسمه دون علمه، وليتواصل مع محبيه الذين كشفت وفاءهم إشاعة وفاته، وتكشفها الآن فرحتهم برؤية صورته سليما معافى، قلت له إنه قاسى طوال حياته واغترابه، وهو يزرع الشعر والمعاناة، ولمّا جاء وقت حصاد ثمرة ذلك، محبة الناس، تركهم ورحل. 

وحتى أكون في حلٍّ من وعد عدم النشر وحلً من كتمان شهادة تاريخية، ذكرت له أني سأحتفظ بالقصص والأسماء، وقد أنشرها إذا أمدّ الله في العمر، في وقتٍ لم تعد تضرّ فيه أو تنفع أحداً، إنما تُسرد كحقائق تاريخية نحن مؤتمنون عليها ما دمنا شهودها، ربما تشبهها في ذلك أنظمة الإفراج عن الوثائق في الحكومات الغربية بعد عقود من الزمن، وبعد أن تنتهي مخاطر وأضرار نشرها. 

النقطة الأخرى الهامة التي تستحق التنويه هي أن ما أكتبه على لسان أحمد مطر بتصرّف، فلم أكن أحمل معي سوى ذاكرتي، التي رجوتها أن لا تخذلني هذه المرة في الاحتفاظ بالمسميات والأرقام، كنت أساعدها بتدوين بعض رؤوس الأقلام في مفكرة الجوال، لكن لما رآني منهمكا بإصبعي في كبس الشاشة طلب أن لا أنشغل به، فأخرجت سلاح الذاكرة الاحتياطي قلم ونوتة صغيرة، ودونت فقط كلمات معدودة لمساعدة الذاكرة في تخزين المعلومات، لذلك فإن أي خطأ في السرد والمعلومات هو مني ومن سوء حفظي.


وصلت الطاولة حاملاً كوبَي القهوة، ولم أذكر كيف بدأ الحديث حول غزّة، إلا أن ذلك يدلّ على أن الهمّ الفلسطيني والمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني هو الساكن في ضميره، تعجّب من التفرّق العربي حول قضية العرب والمسلمين، فبعد أن كانت القضيّة تجمع العرب كلّهم على اختلاف توجهاتهم، أصبحوا متفرّقين حولها. أخبرته أن خالد مشعل -رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- استخدم شطرا من قصيدته "حكاية عباس": "اصقل سيفك يا عباس" في خطابه خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم. 


تحدّث أحمد مطر عن طفولته في بلدة "تنومة" في محافظة البصرة، عن طبيعته العنيدة المتمردة في شبابه، عن نهمه للقراءة منذ الصغر، عن العراق ونخيله، عن بعض الرؤساء ممتدحا فترة رئاسة عبدالرحمن عارف الهادئة القصيرة التي لم تدم سوى سنتين. ذكر أن الكتب في العراق كانت تباع بأسعار زهيدة حتى بمقياس ذلك الزمان، وتأتي من كل مكان، والمجلات تفد من لبنان ومصر، كانت البيئة تشجع على القراءة والمعرفة، وقد ألزم نفسه في تلك الأيام بقراءة ثلاثة كتب يومياً، لم يكن مهماً حجم الكتاب وعدد صفحاته، أية ثلاثة كتب يختارها يلزم نفسها بإنهائها في نفس اليوم. وفي سن الثانية عشرة -هكذا يهيء لي أني سمعتها- ذهب إلى مدير المدرسة، طالبا منحه خطابا يعينه على الاستعارة من المكتبة العامة، تعجّب مدير المدرسة مصطفى النجار -الذي أصبح لاحقا مديراً لمركز لدراسات الخليج والجزيرة العربية- وسأله عما إذا كانت مكتبة المدرسة لا تكفيه، فردّ بأنّه لم يجد الكتاب الذي يريده فيها، سأله المدير عن اسم الكتاب، فأجابه مطر: البؤساء، فسأله مختبرا: ومن مؤلفه؟، فأجاب: فيكتور هوجو. ابتسم مدير المدرسة ومسح على رأسه، وأعطاه الخطاب الذي طلبه. 


بدأ مطر في كتابة الشعر في الرابعة عشر من العمر، وساعده أخوه الأكبر عندما أخذ القصيدة لأحد الأساتذة لمعرفة رأيه فيها، فتفاجأ بها مستغرباً أن يكتب صبي في هذا السن قصيدة مثلها، ثم لما تأكّد من أنه صاحبها عدّل فيها ليستقيم الوزن، واستمرً مطر في الاستشارة في وزن قصائده، حتى قرر أن يتوقّف عن ذلك، ويعتمد على نفسه في وزن القصيدة، فبحث بين الكتب عن تعليم الأوزان، وكانت رحلة البحث مضنية، لأن الكتب وقتها لم تكن مبسطة، حتى وقع على كتاب درسه بعناية إلى أن أصبح ملماً بعروض الشعر وأوزانه، ومستغنيا بذاته عن استشارة غيره في كتابة الشعر. وما يزال ممتناً لأستاذه "نوري الفخري" مدرس اللغة العربية في الصف الأول متوسط، لفضله الكبير عليه، وتشجيعه غير العادي له في تلك السن على تطوير موهبة الشعر والاهتمام بها.

 سألته عما إذا كان قد كتب شعر الغزل في بداياته، فأجاب: نعم، كان معتزاً ببداياته في الشعر، تمنيّت لو حصلت على نماذج من هذه البدايات الشعرية، ومن شعره الغزلي، ولعل ذلك يكون قريباً بإذن الله.



هذا ما سمح به وقتي هذه الليلة، وسأتحدث لاحقا إن شاء الله عن قصته مع منتحلي شخصيته، ومع ناجي العلي، وقصائده القريبة منه، والمرأة التي بهرته وكتب عنه.

Friday, August 22, 2014

لقاء مع المطر (٢)

لقاء مع المطر (٢) 



انتهى الاتصال سريعاً كأن لم يبدأ، فقد كان الحديث لا يملّ، لكنّي قبل نهايته تمسكت بآخر خيوط الأمل، تمنّيت أن يزيد غلّة كرمه، ويتبع هذه المكالمة بلقاءٍ يكون ثمرة هذا الانتظار الطويل، ومكافأةً لما رآه جميلاً وأراه قليلاً، وعدني بتلبية الطلب، ولكن ليس الآن لأنه للتو خارج من معركته مع السرطان، وبحاجة لفترة نقاهة. سألته إن كان يريد مني تذكيره بعد مدة معينة، خشية أن ينسى وعد اللقاء، فأجاب أن لا حاجة لذلك، وسيتذكره بإذن الله. 

مرّ أكثر من شهر على الاتصال، وبدأ اليأس يتسلل إليّ، لم أكن أستطيع الاتصال خشية أن أكون ملحاحاً، حتى كان اتصاله المفاجئ، ظهر اسمه على شاشة "الجوّال"، وأجبت، وأنا وسط التخمينات عن سبب هذا الاتصال، حتى أن إحدى هذه التخمينات حاولت إحباطي بأن الأمر كله لن يكون سوى خطأ، وأنه أراد الاتصال بشخص آخر، تبدّدت تلك الأفكار السوداء بسؤال مباشر منه عن إمكانية اللقاء في الغد، حتى آخر الحوار الذي كتبته في بداية الجزء الأول. 

بقيت مشكلة التعرف عليه، آخر صورة له كانت قبل عقد أو ربما عقدين، وبعد هذه السنين لابد أن شكله تغيّر، ولم تعد ملامحه كما هي، وهو لا يردّ على جوال، وحلقة الوصل الوحيدة معه هاتف المنزل. كمحاولة للتقريب ذكر لي أن من ملامحه الطول، وأنه سيلبس جاكيتاً أسوداً، أما أنا فلم أستطع وصف نفسي له، بل ذكرت له مازحاً أن تصميمي مطابق لمواصفات معظم سكان الخليج في لون البشرة الحنطي وفي الطول، فليس هناك مواصفات خَلقية لافتة للانتباه، ولم أكن أستطيع وصف ملبسي الذي سأخرج به، لأني لا أعرف في الغد ما سألبس، فمن عاداتي السيئة أني أنثر ما في الخزانة من ملابس قبل دقائق من خروجي، وأحتار في الاختيار، وقد أنتهي إلى ما لبسته بالأمس وقبل الأمس وقبله وقبله. انتهى الأمر على تأكيد مطر أن لا خوف من عدم التعرف عليه أو عليّ، فالدم العربي يحنّ، وسنعرف بعضنا من غير جهد أو تعب. 


في اليوم التالي، عدت إلى لندن قبل ساعتين من الموعد، كانت كافية لوضع حقيبتي وتغيير ملابسي، وطباعة بعض الأوراق، وكتابة إهداء له على كتابي أو لنقل تجربتي الأولى مع الورق، استقلّيت بعدها القطار متجهاً إلى المحطة، وصلت قبل الموعد بعشر دقائق، واكتشفت أن بوابات محطة الميترو بدل أن تكون اثنتين أصبحت ثلاثة! وكان الموعد على الجانب الأيمن من إحدى البوابات، أًصبحت أتفحص الوجوه المتحركة والواقفة، ولأنّ الوقت هو موسم السياحة في لندن، كانت أكثر الوجوه عربية الملامح حتى يخيّل لزائرها أنه أخطأ الوجهة وحطّ في بلد عربي. اقتربت الساعة من الرابعة عصراً، وكان هذا توقيت الموعد، تنقّلت بين البوابات خوفاً من أن أكون قد أخطأت تحديد البوابة، ثم قرّرت أن أقف في مكان يكشف الداخلين والخارجين من بوابتين.

الرابعة عصراً ولم يظهر شاعرنا العزيز، أمسكت بالجوّال وقد فكرت في الاتصال على بيته للاطمئنان إن كان خرج أم لا، لكن قبل أن أجري الاتصال، ظهر رجل طويل، أبيض الشعر، أنيق الهندام، لم يستغرق الأمر سوى نظرة أولى لمعرفة أنه أحمد مطر، احتفظ ببعض ملامحه القديمة التي لم يستطع المرض ولا الزمن سلبها من محياه، أهمها مسحة الحزن، وهي العلامة المميزة لكل عراقي. يولد الطفل في العراق وفي جيناته كروموسومات حزينة، الذي لا يحملها يُعدّ طفرة جينية، تنساب هذه الجينات على ملامح وجوههم، على أشعارهم، رواياتهم، على أغنياتهم، مواويلهم، عَتاباتهم. هي موجودة في كل شبر في العالم العربي الحزين لكنها في العراق تزداد وضوحا.  


ناديته قبل أن يعبر من أمامي، أستاذ أحمد، ثم بكنيته، التفت باسماً، ذكر أنه كان واقفاً على يمين إحدى البوابات، ثم جرّب أن يبحث بنفسه. مازحته قائلا أنه أصبح أكثر وسامة من قبل، ومشينا إلى مقهى يعرفه، اختاره لهدوئه، وبعده عن الضجيج، في الطريق سألته إن كان سمع بوفاة سميح القاسم، كان خبر وفاته قد وصلني بعد مكالمته وقبل لقائه، أجاب أنه علم به، وتأثر بسماعه، فقد كان سميح القاسم وفيّا عندما اتصل ليطمئن عليه أثناء معاناته مع السرطان، وذكر أنه سيبحث عن رقم أهله ليعزيّهم.

كان سميح القاسم قد بدا في آخر تكريم له وكأنه في حفل تأبين، بان عليه أثر المرض، وكأنه قد رفع راية الاستسلام له منتظرا قدره. 



كانت آثار المحنة الأخيرة مع السرطان ما تزال على تقاسيم وجه أحمد مطر، شحوب وإنهاك يقاومهما بابتسامته، ذكر أنه زاره في البداية  عام ٢٠٠٥، وشُخّص على أنه سرطان لمفاوي بدرجة منخفضة، تشافى منه بعد العلاج، لكن شعر بعد سنوات بألم حاد، وساعده تنبيهه للأطباء بتعرضه من قبل للسرطان في تكثيف الفحوصات، فأُخِذت عينة من جانب الرقبة لفحص ما إذا كان هناك ورم سرطاني، وبعد التحليل تبين أن العدو الشرس (السرطان) قد عاد ولكن بدرجة عالية هذه المرة. وابتدأت رحلة العلاج المؤلمة، ألم العلاج الكيماوي ومهدئات الألم الفظيع التي قد تؤدي للإدمان لمن يسيء استخدامها. 

خاض مطر معركة عنيفة مع المرض، معركة شخص أعزل إلا من إيمانه وصبره أمام عدوّ شرس غادر بسلاح فتّاك، لذلك ذكر أثناء الحديث أن هذا الصراع تسبب في انعزاله، وإلا فقد كان قبلها اجتماعياً. 






إذا كان أبو العلاء رهين المحبسين البيت والعمى، فإن أحمد مطر رهين المحبسين البيت أيضا والمرض، ولكن أحمد مطر يذكر سبباً آخر دفعه للاعتزال، إنه "الخيبات"، الخيبات في الأصدقاء، وتبدّل مواقفهم، الخيبات في العالم العربي، وتحوّله من سيء إلى أسوأ. 

بالنسبة لي أعتبر أن الأخيرة هي السبب الرئيسي في عزلته، بالإضافة إلى حدثٍ مفجع، موجع، ما يزال ألمه في صدر كل محب لحرية الرأي، وعاشق لمقاومي الطغيان، وبالتأكيد سيكون وجعه أكبر على الصديق القريب جدا من ناجي العلي، ولهذا الحدث وصاحبه وقفة قادمة إن شاء الله.



Thursday, August 21, 2014

لقاء مع المطر (١)

لقاء مع المطر (١)



-هل يناسبك غداً مساءً أن نلتقي؟. 
-سأكون بعيداً عن لندن، لكني بالتأكيد سأعود إليها من أجل اللقاء. 
-لا، لا تضغط على نفسك، لندعها في يومٍ آخر. 
-أبداً، كنت أنتظر هذا اللقاء، وأخاف أن يطول الموعد، سأقابلك إن شاء الله. 
-إذن، نلتقي إن شاء الله في محطة (.....)، أعرف مقهى هادئا قريباً منها، نستطيع فيه الحديث بعيدا عن الضجيج.


لم يكن صاحب الاتصال المفاجئ سوى الشاعر الكبير أحمد مطر، وبالمصادفة كان موعدي في الغد في مدينة (ستاتفورد أبون إيفن) مدينة الشاعر الإنجليزي العظيم ويليام شكسبير، فكأن يوم الغد سيكون يوم الشعراء الذين وضعوا لهم في تاريخ الأدب بصمة مميزة لا يشابههم فيها أحد سواهم.

بدأت علاقتي بكلمات أحمد مطر عندما نشرت له لافتاته، ولم يكن النشر بمفهوم دور النشر التي تطبع للمؤلفين وتبلع حقوقهم، بل طبعتها في طابعة شخصية، وصففتها وغلفتها لأحتفظ بها، فدواوينه لا توجد في المكتبات، والبحث عن كتاب له يشبه البحث عن شجرة تفاح في صحراء قاحلة.

لا أظن أني وحدي في هذا التقدير له والإعجاب بنصوصه، ولا أستغرب محبة الناس له، فقد قضى حياته يكتب بنصل القلم، ويتعرض للتهديد من أجل شعره، كان بإمكانه أن يبيع نزاهته في أقرب سوق عربي للضمائر المستعملة، وأن يمدح الحكومات بدل أن يعاديها، لكنه بقي صامدا في زمن المتبدلين، واعتكف بعيدا عن الناس والشهرة والأضواء، زاهدا في ذلك كله، مريحا نفسه من الإغراءات، ومريحا الحكومات من همّ ملاحقته. شخصٌ بهذه المواصفات كفيل بالمحبة، فما بالك إن زاد عليها شعراً ليس من السهل استنساخه، فقد شكّل خطاً مميزا، وخليطا فريدا، بجمعه شعر التفعيلة بالسخرية المرة، وتجديده في فن الهجاء بأفكار مبتكرة، وأسلوب بسيط الكلمات عميق المعاني سهل التداول، إلى غير ذلك من أشكال الإبداع في شعره مما يمكن الرجوع فيه للقراءات النقدية.

بحثت عنه وعن كل وسيلة توصلني إليه، حتى تطوّع صديق مشترك بإعطائي رقمه، ناصحا إياي بعدم التعب في محاولة لقائه، لأنه اعتزل الجميع حتى أقرب أصدقائه، ولن يقابل -بعد هذا كله- غريباً لا يعرفه. قمت بشرف المحاولة، وكان على الخط الآخر، زوجته الفاضلة، عرفت فيما بعد من أصدقائه أنها كانت الوسيلة الوحيدة للاطمئنان عليه وعلى صحته بعد أن اختار العزلة، ردّت علي بلطف أنه لا يستطيع لقاء أحد، ووعدتني بإبلاغه بالاتصال. كان هذا الاتصال ذو الدقائق المعدودة قبل سنوات، وطوال هذه السنوات لم يخفّ شغفي باللقاء، لكن شيئا ما كان يدفعني لاحترام عزلته، إحساسي بها، حسناً أعترف بأنها تمرني بين فينة وأخرى، وأقساها كانت بعد وفاة والدي رحمه الله، كان حتى اتصال أقرب شخص للقلب حدثا مزعجا، خشيت أن أكون ضيفا ثقيلا على هاتفهم، فلم أتصل إلا ربما مرة واحدة خلال هذه السنوات، حتى كانت شائعة وفاته، فكان لا بد من الاتصال للتأكد. 

انتشرت شائعة وفاته بقوة، وأصبحت كأنها حقيقة، رفعت السماعة لأتأكد من هذا الخبر المشؤوم، ردّت علي زوجته بلطفها المعتاد: يا ولدي هو الآن في مراجعة عادية في المستشفى، وبخير ولله الحمد، سألتها، ألم يكن منوّما؟. فأجابت لا، ذهب بنفسه لموعده. كنت أحادثها، وأنا أخشى أن أكون قد نقلت إليها من غير قصد- هذا الخبر المؤلم الذي لم يصل إليها بعد. 

بعد إغلاق الهاتف، نشرت في "تويتر" تكذيباً لهذه الشائعة، لكن حجم انتشارها كان رهيبا، ساعدت وسائل إعلامية ورقية وفضائية في نشر الشائعة في صفحاتها وقنواتها. وتعرّضتُ حينها للتكذيب لأني حسب زعم البعض أنقل عن زوجته رغم أنها توفيت من سنوات، وكأنّ قتله لم يكفيهم فألحقوا به زوجته، مدّ الله في عمريهما، ورزقهما الصحة والعافية. ومع ذلك ساهم النفي الذي نشرته -بالإضافة إلى ما نشره إخوة أفاضل اتصلوا هم أيضا بأهله وتأكدوا من سلامته- في مكافحة هذه الشائعة. 

وبعدما اتصلت في اليوم الثاني، كانت المفاجأة عندما تحدث إليّ أحمد مطر شاكراً على تكذيب الشائعة، فلم يكن باستطاعته -وهو المبتعد عن العالم والإعلام- إيصال نفي وفاته. لم يكن ما فعلته يستحق الشكر، لكن روحه الخيّرة -التي يأسرها أي عمل حسن تجاهه حتى لو كان ضئيلا- جعلته يخرج عن صمته ليوصل شكره، حدّثني بحزن عن ما أحدثته هذه الشائعة، قال إنها ليست المرة الأولى التي تقتله الشائعات، لكن هذه المرة هي الأعنف، فقد بلغه أن القناة العراقية نشرت الخبر، وكان من الصعب أن يسمع حزن أخواته، وقلق إخوته، كان متعجباً من الجرأة على تلفيق خبر قاس مثل هذا، من أشخاص لا يراعون وقعه في نفوس أهل ضحية الإشاعة وأحبابه، وذكر أن أمه لو كانت على قيد الحياة ووصلها هذا الخبر المكذوب لربما ماتت حين سماعه، فقد كان أحمد مطر أصغر إخوته الذكور الذين ذهب اثنان منهما ضحية النظام البعثي، وسأعرج للحديث عن طفولته، وبقية ما يمكن نشره مما دار في اللقاء لاحقاً، مع خالص الاعتذار على تجزئة الحديث، فإنّ وقتي البخيل لم يمنحني اليوم سوى دقائق معدودة لكتابة هذه الكلمات.




Friday, August 15, 2014





إخوانيات مكهربة بين القصيبي وأصدقائه






"الإخوانيات" من فنون الشعر الجميلة، فهي على خلاف الرثاء والمدح والحماسة والوجدانيات تميل إلى الظرف، وتخلط هموم الحياة بالسخرية والدعابة. ولأن غازي القصيبي شاعرٌ جاءت بعض المعاملات والطلبات المقدمة إليه كوزير على شكل قصائد يمتزج فيه الرجاء بالهجاء. وشهدت فترة توليه وزارة الكهرباء أكثر المساجلات الإخوانية، فقد استلم القصيبي الوزارة في أوج التوسع العمراني فانهمرت الطلبات من كل مكان، وأرسل بعض أصدقائه معاتباتهم على شكل قصائد، ومنهم الشيخ راشد بن خنين، فعندما كان رئيسا عاما لتعليم البنات عام ١٣٩٨هـ أرسل إلى القصيبي بيتين يطلب فيهما إيصال الكهرباء إلى بعض مدارس البنات: 


غزانا الصيف يا غازي فجودوا 
بتيارٍ يكيّف للمدارسْ

بنات الناس في قلقٍ ويُغشى 
على بعضٍ فرفقاً بالعرائس


وبعد عامٍ، لم تصل الكهرباء، فأردفها بأبيات أخرى قائلا: 


تمام الحول قارب لم تجيبوا 
ولم تُجْزُوا المماطل والمعاكس 

كلام الناس في هذا كثيرٌ 
وأنت الشهم تنفي للوساوس 

فمرهم عاجلاً يأتوا بسلكٍ 
يبرّد أو يبدّد للحنادس

وعهدي فيكمُ حزمٌ وعزمٌ 
ودور العلم أولى من منافس
ونرجو الله إصلاحاً سريعاً 
لأجهزة الدوائر والمجالس
وختْم القول تذكيرٌ وشكرٌ 
لغازي الشعر والرجل الممارس


فأجابه القصيبي بهذه الأبيات: 


رعاك الله يا شيخ المدارسْ 
وصانك للصغيراتِ العرائس 

وأما بعد رقعتكم أتتني 
تعاتبني فهاجت بيْ الهواجس 

وملءُ عتابكم ودٌّ وحبٌّ 
يحيط به من الأشواق حارس 

ويدري الله كم يدمي فؤادي 
عذابُ صبيّةٍ والحرُّ عابس 

وحر الصيف بالأبطالِ يودي 
فما بال الرقيقات الأوانس؟! 

وعذري -إن قبلت العذر- أنّي 
أمارسُ من بلائي ما أمارسْ 

توسّعت الرياضُ، نمت، فصارت 
(كلندن) في تشعبها و(بارس) 

ففي حيّ (النسيم) شكت ألوفٌ 
تنادي في الدجى والليل دامس


وللأديب الكبير عبدالله بن خميس مساجلات مع القصيبي حول طلب إيصال الكهرباء، فقد سكن ابن خميس بلدة "العمارية" التي تقع شمال غرب الرياض، ولم تكن الكهرباء قد وصلتها إبان تولي القصيبي وزارة الكهرباء، فأرسل في البداية ابن خميس قصيدة منها: 

على الذبالة والفانوس والجازٍ 
عيشى ظلامك حتى يأذن الغازي 

وسِعته الصبر مهمازاً فأوسعني 
صدّاً فحطّم هذا الصدّ مهمازي 

فرّت جيوش الدياجي من مكامنها 
من دار همدان حتى دار عنّازِ 

إذا سألت وزير الكهرباء بها 
من أنجز النور فيها؟ قال: إنجازي 

وان سألت لماذا ظلَّ في غلسٍ 
وادي ابن عمّارَ؟ هز الرأس كالهازي 

أظلُّ فيه بلا نورٍ يؤانسني 
وفي حنادسه عطّلت تلفازي 

ولي قرينان لا أنفكّ دونهما 
أصاحبُ الليل كشّافي وعكّازي 

هذا يضيءُ لخطوي منتهى قدمي 
وذا ينفّر عنّي كل وخّازِ



فأجابه القصيبي: 


أوعزت للقوم حتى كل إيعازِ
وقلت لا تتركوا صحبي على الجازِ

وقلت هذا خميسُ الشعر جاءكمُ
يحدو الشواردَ لم تهمز بمهمازِ

أعطاكم من حِسان الشعر فاتنةً
مجلوّة ًبين إبداع وإعجازِ

وما هجاكم وحلو الطبع شيمته
ولو هجاكم لذقتم سطوة الغازي

أيّ الوساطات بين الناس نافذةً
إنّ الوساطة أفعى ذات إنجازِ

فوسّطَ الشعرَ لم يشفع له أحدٌ
سوى القوافي وإكباري وإعزازي



وبعد مدّةٍ كتب ابن خميس هذه القصيدة المنشورة في صحيفة الجزيرة عام ١٤٠٣هـ : 





وردّ عليه القصيبي مرة أخرى بقصيدة طويلة جمعت بين الطرافة والشكوى، وشرحت الوضع الإداري في الوزارة وحال المقاولين، فكانت خير قصيدة لتبيان الوضع حينذاك: 


أعبدالله يا شيخ القوافي
ومرتجل البديعات الظرافِ 

تضرّسني بأنيابٍ حدادٍ
ِوتأسوني بأبيات لطاف

وعتْبك أنت كالشهدِ المصفّى
وبعض العتْب كالسمِّ الزعاف

أتت حوليةٌ أخرى بلومي
ولم تعبأ بعذرٍ غير خافي

ًهجرتَ الناس والدنيا وحيدا
بعمّاريةٍ وسط الفيافي

ٌيفرّقها عن العمران درب 
ٍطويلٌ ذو انعراجٍ وانعطاف

فلا "هيلكوبترٌ" تفضي إليه
ِويشكو “الجمسُ" من طول المطاف

أقمت بدوحك النائي تغنّي
وأشقى بالكهارب والمشافي

فمن مستوصفٍ أضحى ركاماً
لمستشفى يضرّ ولا يعافي

ومن هجرٍ إلى الماطور تصبو
إلى تلك المصانع والمصافي

وألهثُ في الحواضر والبوادي
وأركض في الشواطئ والمرافي

ٍوتغفو أنتَ في ظلٍّ ظليل
وتمرك يانعٌ والماء صافي

وأقرأ ألفَ معروضٍ وشكوى
وتقرأ أنت أشعارَ الرصافي

وأحملُ في دمي همّ البرايا
وهمّك نصبُ حالٍ أو مضاف

تقول إليّ بالتيارِ فوراً
"وإلا فارتقب غضب "السنافي

ًتظل تسومني التقريع شعرا
ولا يغنيك أو يشفي اعترافي

ٍّفلستُ بماردٍ من نسل جن
ِولكني من البشر الضعاف

يكبّلني النظامُ وكنت تشقى
بهِ قبل التفرّغ للقطاف

فبالتصميم نبدأُ ثم تأتي
مناقصةٌ وفتحٌ للغلاف

ٌويعقب ذاك تحليلٌ طويل
وقد يتلوه تقييمٌ إضافي

فهذا العرض نزرٌ غير كافٍ
وهذا العرض فجٌّ غير وافي

وهذا العرض جاء بلا ضمانٍ
ِوهذا العرض ذو سعرٍ جزاف

ٌفترسيةٌ فإخطارٌ فعقد 
ِفتوقيعٌ على بيضِ الصحاف

فتسليم المواقعِ في الصحاري
ِعلى ما فيه من سوءِ الخلاف

وربّ مقاولٍ نشطٍ ويجري
كما تجري القصائد في الشغاف

ٍيشيّد في صباحٍ أو مساء
ِعواميداً كأعناق الزراف

ورب مقاول بالزحف يُبَلى
كما تُبَلى القصائدُ بالزحاف

قضاء الله والدنيا حظوطٌ
وبعض موسرٌ والبعض عافي

سألت القوم عنك فأخبروني 
بأنّ الكهرباء غداً توافي

ٍوفي شهرين تغمركم بنور
كضوء الحب في ليل الزفاف

ٍفإن جاءت فكافأنا بشعر
نُسرّ به وقد قلّ المكافي

وفي بستانك المعمور أولم 
بهرفيٍّ سمينٍ في الخراف

وهذا وعدنا والوعد دينٌ 
على حال الثراءِ أو الكفافِ


والمساجلات الكهربائية أكثر من هذه التي سردتها أعلاه، وعارضها عدد من الشعراء، ولكن حسبي في هذه المدونة سرد بعضها، وللمؤلف خالد بن محمد بن خنين كتاب بعنوان "الشعر الكهربائي بين الشيخ راشد بن خنين والدكتور غازي القصيبي وآخرين" جمع فيه ما قيل في هذا الشأن من قصائد ومعارضات، لعل من أراد الاستزادة يرجع إليه.

Monday, June 23, 2014





(شنطة) مبتعث!




الشنطة أو إذا أردنا أن نفصحنها أكثر الحقيبة، هي رفيقة المسافر ومستودع أسراره واحتياجاته، ولو تحوّلت الحقيبة إلى كائن بشري لأصبحت (قيرل فرند) العازب وزوجة المتزوج. فلا يمكن لحاملها إلا أن يحبها وهو الذي اختارها بعناية من بين كل الحقائب، وحرص على حشوها بما يرغبه ويحتاجه، فكل ما في داخلها يوافق ذائقة صاحبها. الحقائب أصبحت جزءا لا يتجزأ من الأسرة، فترى الأطفال يتقافزون بفرح وكأنهم يستقبلون فردا من أفراد عائلتهم عند رؤيتهم في المطار لحقيبتهم قادمة على سير الحقائب المتحرك. وتكريما للحقيبة التي تصاحبت وإياها زمنا طويلا تغزلت فيها قائلا: 


حقيبتي أصبحت منّي ومن بدني..وليس لي غير كل الأرض عنوان 


بعد عدة تجارب ومصائب أقول للمبتعث أحسن اختيار حقيبتك، واجعلها وما فيها ممّا خف حمله وكثرت فائدته، فأولى مصائب ابتعاثي كانت في حقيبتي، ومسمى حقيبة تهوين من شأنها، فهي كانت أقرب لجنس السيارات منها إلى جنس الحقائب، ولو رُكّب لها مقودٌ وزوّدت بمحرك، لكانت ملائمة للسير في الشوارع. كان حجمها يسمح لشخصين بالنوم فيها مع قليل من التثني، وغالب ما احتوته بالإضافة إلى الكتب أشكالا مختلفة وتصاميم متنوعة من الملابس وكأني سأستقر في بلد عراة.

ابتليت بهذه الصاحبة ضخمة الجثة في السفر، وكنت لا أقودها إلا سحبا من الأمام أو دفعا من الخلف، وعندما أقمت في نزل صغير كان الدرج لا يتسع لكلينا فاضطررت لتقديمها عملا بمبدأ النساء أولا، مع إمساكي بقوة برسنها وهي تهبط مسرعة حتى لا يفزع صوت ارتطامها بعد استقرارها على الأرض ساكني النزل. الطريف أن نصف الملابس التي أحضرتها لم ألبسها واضطررت لشراء غيرها فلم تنجح متابعة الأفلام الأمريكية في إعطائي صورة صادقة عن الموضة في ذلك الوقت.


أول حقيبة ظهر اقتنيتها كانت في اليوم الثاني من وصولي إلى بوسطن، بعد أن تزاملت مع سائح أوروبي، سألته عن مكان وتصادف أنه ذاهب إليه، فسرنا سويا نجرب لغتنا الإنجليزية المكسرة مع بعضنا، ولفت نظري أنه يحمل كل شيء في حقيبته فهي باختصار كل حياته، وكلما احتاج شيئا وضع حقيبته على الأرض والتقط منها ما يريد، وبعد أن افترقنا عزمت على أن أسارع في شراء حقيبة مثلها، ولـ (حسن) سوء الحظ رأيت حقيبة من وراء زجاج محل، وابتعتها دون تركيز أو فحص، وبعد أن عدت إلى الفندق وجدت مكتوبا عليها (كلية بيركلي للموسيقى)، رأيت المحل بعد فترة فاكتشفت أنه تابع للكلية ويبيع تذكاراتها. هذه الحقيبة الظهرية سببت لي حرجا دائما في فترة اللغة، فكل من رآها ظنني موسيقارا، ونظر إليّ باحترام نظرته لبيتهوفن وموزارت وبليغ حمدي، وهو لا يعلم أن حاملها مكره لا بطل، كنت دائما أضطر لسرد القصة السابقة كلما تحمّس أحد وجاءني من بعيد ليستفيد من خبرتي الموسيقية.

Saturday, April 5, 2014



لماذا بعض الكتاب السعوديين أغبياء وحمقى؟!



لن أدع الإثارة تتجاوز العنوان، لذلك أقول منذ البداية لمن جاء يبحث عن الصراخ والشتيمة أن يعود أدراجه قبل أن يكمل هذه الجملة، أما من أراد نقاش فكرة هذه التدوينة فعليه الاستمرار إلى آخرها.

صياغة العنوان جاءت على نمط المقال الأخير للزميل سعيد الوهابي الذي عنونه بـ “لماذا بعض البنات السعوديات قبيحات وغبيات؟!”، المقال ساخر وكل الحجج التي سيقت فيه لا أظن الكاتب يصدقها، وإن استمر في دعمها فهو من باب تقمص الدور حتى آخر المشهد، فكل ما فيه جاء على مذهب توفيق عكاشة الذي وجه للمرشح السابق للرئاسة المصرية محمد البرادعي أسئلة على شاكلة: “انت تعرف تزغطّ البط؟!” “انت عارف سعر ربطة الجرجير بكم؟! طب تعرف عدد العيدان بتاعتها؟!”.

والوهابي كاتب جيد لكنه لجأ لحيلة استفزاز القارئ كرصاصة رحمة للوي الأعناق لقراءة كتاباته، فله من الكتابات الجيدة ما يستحق التأمل غير أن الذائقة القرائية دفعته كغيره للبحث عن الإثارة.

ليس سعيد الوهابي الوحيد الذي أراد لفت الأنظار، وهذا بالمناسبة حق له في ممارسة حرية التعبير ما لم تتجاوز المسلمات، أحمد العرفج الكاتب القدير ظل يكتب طويلاً مقالات جميلة، ولكن لم يعرف على نطاق واسع إلا بعدما قال إن المرأة السعودية بقرة! نادين البدير لم تعرف إلا بعد مصادمتها للثوابت ومطالبتها بزواج المرأة من أربعة رجال! والأمثلة كثيرة، وهذه الحيل الكتابية الاستفزازية تمنح صاحبها الشهرة لكنه يخطئ عندما يقع في فخ التبرير، ولا ينهي المشهد باعتباره مشهدا ساخرا ينتهي بنهاية المقال والردود الظريفة عليه.

وليس الأمر قائما على الكتاب وحدهم، فإن مغردين -من جميع التيارات إن صحت التسمية- نهجوا هذا النهج عند بدايتهم؛ وبعضهم أسرف في الشتم والتجريح والقذف والبذاءة، حتى إذا ما اجتمع خلفهم مريدون ومؤيدون غيّر بعضهم جلده بناء على المكانة والشهرة التي وصل إليها، والتي تتطلب “برستيجاً” معينا، واستمر بعضهم على نهجه لأن موعد قطف ثمار الشهرة وسوء السمعة لم يحن بعد.

من الإجحاف أن يلقى اللوم على الكاتب أو المغرد فقط، دون النظر بالاعتبار إلى القارئ الذي أعتبره الموجّه الرئيسي لبوصلة الكتابة والثقافة، فالذائقة الجمعية القرائية هي القادرة على رفع سقف الإبداع وخفضه، إذا ما ارتفعت وارتفع الوعي معها فإن الكاتب سيضطر لشحذ أدواته للارتقاء بما يكتب، وإذا ما انخفضت سيغري ذلك بعض الكتاب للتهاون والنزول - أحيانا حد الإسفاف- لها حتى لا يغرد في الصحراء.

الوعي والقابلية للاستفزاز على علاقة عكسية مع بعضهما؛ فكلما زاد الأول قلّت الثانية والعكس صحيح، لذلك فإن تشجيع القراءة الجادة المتنوعة بعيون ناقدة سيخلق قراء مثقفين مما يجعل الكتاب لا يحتاجون حيل لفت أنظارهم بأساليب غير إبداعية.

كما تكونوا يُكتب لكم، فإن كنتم تمنحون الشهرة لكل ما يستفزكم فترقبوا عناوين مثل: السعوديون …..” و”النساء…” وضعوا في الفراغات ما يجعلكم “تهشتقون” المقال وكاتبه.