إخوانيات مكهربة بين القصيبي وأصدقائه
"الإخوانيات" من فنون الشعر الجميلة، فهي على خلاف الرثاء والمدح والحماسة والوجدانيات تميل إلى الظرف، وتخلط هموم الحياة بالسخرية والدعابة. ولأن غازي القصيبي شاعرٌ جاءت بعض المعاملات والطلبات المقدمة إليه كوزير على شكل قصائد يمتزج فيه الرجاء بالهجاء. وشهدت فترة توليه وزارة الكهرباء أكثر المساجلات الإخوانية، فقد استلم القصيبي الوزارة في أوج التوسع العمراني فانهمرت الطلبات من كل مكان، وأرسل بعض أصدقائه معاتباتهم على شكل قصائد، ومنهم الشيخ راشد بن خنين، فعندما كان رئيسا عاما لتعليم البنات عام ١٣٩٨هـ أرسل إلى القصيبي بيتين يطلب فيهما إيصال الكهرباء إلى بعض مدارس البنات:
غزانا الصيف يا غازي فجودوا
بتيارٍ يكيّف للمدارسْ
بنات الناس في قلقٍ ويُغشى
على بعضٍ فرفقاً بالعرائس
وبعد عامٍ، لم تصل الكهرباء، فأردفها بأبيات أخرى قائلا:
تمام الحول قارب لم تجيبوا
ولم تُجْزُوا المماطل والمعاكس
كلام الناس في هذا كثيرٌ
وأنت الشهم تنفي للوساوس
فمرهم عاجلاً يأتوا بسلكٍ
يبرّد أو يبدّد للحنادس
وعهدي فيكمُ حزمٌ وعزمٌ
ودور العلم أولى من منافس
ونرجو الله إصلاحاً سريعاً
لأجهزة الدوائر والمجالس
وختْم القول تذكيرٌ وشكرٌ
لغازي الشعر والرجل الممارس
فأجابه القصيبي بهذه الأبيات:
رعاك الله يا شيخ المدارسْ
وصانك للصغيراتِ العرائس
وأما بعد رقعتكم أتتني
تعاتبني فهاجت بيْ الهواجس
وملءُ عتابكم ودٌّ وحبٌّ
يحيط به من الأشواق حارس
ويدري الله كم يدمي فؤادي
عذابُ صبيّةٍ والحرُّ عابس
وحر الصيف بالأبطالِ يودي
فما بال الرقيقات الأوانس؟!
وعذري -إن قبلت العذر- أنّي
أمارسُ من بلائي ما أمارسْ
توسّعت الرياضُ، نمت، فصارت
(كلندن) في تشعبها و(بارس)
ففي حيّ (النسيم) شكت ألوفٌ
تنادي في الدجى والليل دامس
وللأديب الكبير عبدالله بن خميس مساجلات مع القصيبي حول طلب إيصال الكهرباء، فقد سكن ابن خميس بلدة "العمارية" التي تقع شمال غرب الرياض، ولم تكن الكهرباء قد وصلتها إبان تولي القصيبي وزارة الكهرباء، فأرسل في البداية ابن خميس قصيدة منها:
على الذبالة والفانوس والجازٍ
عيشى ظلامك حتى يأذن الغازي
وسِعته الصبر مهمازاً فأوسعني
صدّاً فحطّم هذا الصدّ مهمازي
فرّت جيوش الدياجي من مكامنها
من دار همدان حتى دار عنّازِ
إذا سألت وزير الكهرباء بها
من أنجز النور فيها؟ قال: إنجازي
وان سألت لماذا ظلَّ في غلسٍ
وادي ابن عمّارَ؟ هز الرأس كالهازي
أظلُّ فيه بلا نورٍ يؤانسني
وفي حنادسه عطّلت تلفازي
ولي قرينان لا أنفكّ دونهما
أصاحبُ الليل كشّافي وعكّازي
هذا يضيءُ لخطوي منتهى قدمي
وذا ينفّر عنّي كل وخّازِ
فأجابه القصيبي:
أوعزت للقوم حتى كل إيعازِ
وقلت لا تتركوا صحبي على الجازِ
وقلت هذا خميسُ الشعر جاءكمُ
يحدو الشواردَ لم تهمز بمهمازِ
أعطاكم من حِسان الشعر فاتنةً
مجلوّة ًبين إبداع وإعجازِ
وما هجاكم وحلو الطبع شيمته
ولو هجاكم لذقتم سطوة الغازي
أيّ الوساطات بين الناس نافذةً
إنّ الوساطة أفعى ذات إنجازِ
فوسّطَ الشعرَ لم يشفع له أحدٌ
سوى القوافي وإكباري وإعزازي
وبعد مدّةٍ كتب ابن خميس هذه القصيدة المنشورة في صحيفة الجزيرة عام ١٤٠٣هـ :
وردّ عليه القصيبي مرة أخرى بقصيدة طويلة جمعت بين الطرافة والشكوى، وشرحت الوضع الإداري في الوزارة وحال المقاولين، فكانت خير قصيدة لتبيان الوضع حينذاك:
أعبدالله يا شيخ القوافي
ومرتجل البديعات الظرافِ
تضرّسني بأنيابٍ حدادٍ
ِوتأسوني بأبيات لطاف
وعتْبك أنت كالشهدِ المصفّى
وبعض العتْب كالسمِّ الزعاف
أتت حوليةٌ أخرى بلومي
ولم تعبأ بعذرٍ غير خافي
ًهجرتَ الناس والدنيا وحيدا
بعمّاريةٍ وسط الفيافي
ٌيفرّقها عن العمران درب
ٍطويلٌ ذو انعراجٍ وانعطاف
فلا "هيلكوبترٌ" تفضي إليه
ِويشكو “الجمسُ" من طول المطاف
أقمت بدوحك النائي تغنّي
وأشقى بالكهارب والمشافي
فمن مستوصفٍ أضحى ركاماً
لمستشفى يضرّ ولا يعافي
ومن هجرٍ إلى الماطور تصبو
إلى تلك المصانع والمصافي
وألهثُ في الحواضر والبوادي
وأركض في الشواطئ والمرافي
ٍوتغفو أنتَ في ظلٍّ ظليل
وتمرك يانعٌ والماء صافي
وأقرأ ألفَ معروضٍ وشكوى
وتقرأ أنت أشعارَ الرصافي
وأحملُ في دمي همّ البرايا
وهمّك نصبُ حالٍ أو مضاف
تقول إليّ بالتيارِ فوراً
"وإلا فارتقب غضب "السنافي
ًتظل تسومني التقريع شعرا
ولا يغنيك أو يشفي اعترافي
ٍّفلستُ بماردٍ من نسل جن
ِولكني من البشر الضعاف
يكبّلني النظامُ وكنت تشقى
بهِ قبل التفرّغ للقطاف
فبالتصميم نبدأُ ثم تأتي
مناقصةٌ وفتحٌ للغلاف
ٌويعقب ذاك تحليلٌ طويل
وقد يتلوه تقييمٌ إضافي
فهذا العرض نزرٌ غير كافٍ
وهذا العرض فجٌّ غير وافي
وهذا العرض جاء بلا ضمانٍ
ِوهذا العرض ذو سعرٍ جزاف
ٌفترسيةٌ فإخطارٌ فعقد
ِفتوقيعٌ على بيضِ الصحاف
فتسليم المواقعِ في الصحاري
ِعلى ما فيه من سوءِ الخلاف
وربّ مقاولٍ نشطٍ ويجري
كما تجري القصائد في الشغاف
ٍيشيّد في صباحٍ أو مساء
ِعواميداً كأعناق الزراف
ورب مقاول بالزحف يُبَلى
كما تُبَلى القصائدُ بالزحاف
قضاء الله والدنيا حظوطٌ
وبعض موسرٌ والبعض عافي
سألت القوم عنك فأخبروني
بأنّ الكهرباء غداً توافي
ٍوفي شهرين تغمركم بنور
كضوء الحب في ليل الزفاف
ٍفإن جاءت فكافأنا بشعر
نُسرّ به وقد قلّ المكافي
وفي بستانك المعمور أولم
بهرفيٍّ سمينٍ في الخراف
وهذا وعدنا والوعد دينٌ
على حال الثراءِ أو الكفافِ
والمساجلات الكهربائية أكثر من هذه التي سردتها أعلاه، وعارضها عدد من الشعراء، ولكن حسبي في هذه المدونة سرد بعضها، وللمؤلف خالد بن محمد بن خنين كتاب بعنوان "الشعر الكهربائي بين الشيخ راشد بن خنين والدكتور غازي القصيبي وآخرين" جمع فيه ما قيل في هذا الشأن من قصائد ومعارضات، لعل من أراد الاستزادة يرجع إليه.